توالد القص في " خفايا الزمان"
من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة
[تحرير] توالد القصّ في "خفايا الزّمان" لبوراوي عجـينـة
بقلم: بوراوي سعيدانة
تمهيد
يقول بوراوي عجينة: " عندما أشرع في رسم الحروف، أنسى كلّ ما حولي من مشاغل الحياة البسيطة ومن شؤون العباد، وأنغمس في عالم الخيال والحقيقة.. أنسى الأهل والأصحاب، وأُنشئ شخصيّات أسْعَى إلى أن أنطقها بما أريد وأدفعها إلى الفعل والحركة والصّراع كما أشاء، وأجتهد حتّى تضاهي الشّخصيّات الحيّة أو تفوقها أحيانا..." (السّندباد الكاتب، من المجموعة القصصيّة "خفايا الزّمان". دار سحر للنّشر تونس. 1997. الصفحة 129).
لو آخذنا بوراوي عجينة على قوله هذا لقلنا إنّه تحوّل من كاتب إلى مخرج مسرحيّ أو سينمائيّ يتجوّل في مدينة هوليود ليفعل ما يريد ولكن هذا في الخيال فقط فيُدخل من يشاء في عالمه القصصيّ ويُخرج منه من يشاء ومتى يشاء وله القول الفصل في ذلك، ولكنّ هذا الأمر لا يتمّ إلاّ على الورقة فحسب وإن تيسّر له ذلك...
نلاحظ في "خفايا الزّمان" سلوك الكاتب المنهج السّندبادي في القصّ إلاّ أنّه حاد عن هذا السّلوك في قصص مثل (المسافر والقارورة، صفحة 67) و(الشّيخ والورقة الطّائرة، صفحة 77) و(رياح الزّمان، صفحة 85). فقارئ هذه الأقاصيص يلاحظ البدايات الرّتيبة التي انطلق منها الرّاوي في الحكي.. فـنجد مثلا:
ـ "الحافلة تسير مثل أيّام العمر الرّتيبة..." (المسافر والقارورة ص67)
ـ "أخذ يدفع درّاجته القديمة ببطء..." (الشّيخ والورقة الطّائرة ص 77)
ـ "أفقت فجرا ـ على غير عادتي ـ فوضعت يدي على المذياع المسجّل..."(رياح الزّمان ص 85)
هذه حافلة تسير وأيّام العمر تمرّ برتابة بينما شيخ يدفع درّاجته القديمة ببطء، (هو شيخ ودرّاجته شاخت مثله)، وآخر لا نعرف سنّه وموقعه يستفيق فجرا على غير عادته (ونحن لا نعرف عاداته)... فالوصف يتمسّك بمبدأ الثّوابت وتلك "يد السّائق ممسكة بالمقود تفعل به ما تريد" (ص 67) وذاك الكاتب يمسك قلمه بيده فيوجّهه حيث يشاء. "وتتململ الأجساد" في الحافلة بينما تتململ الأفكار والرّؤى في ذهن المسافر (المسافر والقارورة، صفحة 67)...
ـ توالد القصّ في أقصوصة "المسافر والقارورة" نموذجا (ص ص 67-72) من خفايا الزمان
بدأ الرّاوي الأقصوصة بوصف الجوّ العامّ المتمثّل في "التّجوال مساء السّبت لإزالة السّآمة" (ص 67) إذن هناك سآمة من العمل ومن الرّتابة ومن تكرّر الأشياء على نفس المنوال... إلاّ أنّه سرعان ما عرّج على الوضع الاقتصاديّ بهذه الجملة "الأسعار ما فتئت تتزايد والغريب أنّ البضائع تجد دائما من يُقبل عليها..."(ص 68).
الوضع الاقتصادي = تزايد البضائع وارتفاع الأسعار (يقابله) Ü الإقبال على الشّراء
ولعلّ المسافر هنا أراد أن يلغي سبب تزايد الأسعار كمصدر للتّدهور الاقتصاديّ بالإشارة إلى وجود فئة غنيّة لا يصدّها ارتفاع الأسعار عن الشّراء والحال أنّ المشاع في الاقتصاد الحرّ قاعدة العرض والطّلب، ولذلك فإنّ مؤشّر الأسعار هو الهاجس في المخطّطات الاقتصاديّة لأنّ في ارتفاع الأسعار مؤشّر انزلاق ينجرّ عنه التّضخّم الذي يدهور القدرة الشّرائيّة فتصبح البضاعة مكدّسة في الأسواق دون أن تجد من يقتنيها...
ثمّ يربط المسافر بين الوضعين الاقتصاديّ والسّياسيّ قائلا: "كلّما غاب عدوّ في العالم رسموا ملامح عدوّ آخر"(ص 68) هذه الجملة تحيلنا على الوضع السّياسيّ العالميّ منذ سياسة الحرب الباردة بين القطبين (الرّأسماليّ والشّيوعيّ) وقبل سقوط الشّيوعيّة إلى سياسة البعد الواحد حسب تعبير "رولان بارت". وقد بدأت تظهر تعاليم هذه السّياسة بعد حرب الخليج في "العولمة" و"العالم الجديد" وهو ما يعني الهيمنة على العالم من قبل قوّة واحدة...
ويؤكّد المسافر على وعيه بالأوضاع السّياسيّة العالميّة بقوله: "فلا يكفون عن التّحذير منه (ويقصد بذلك العدوّ الآخر) والتّأهّب الدّائم للتّصدّي إلى أخطاره وحماية النّاس منه" (ص 68).
لم يسمّ الرّاوي الأشياء بأسمائها بل تركها لضمير الغائب لأنّ القارئ العاديّ لا يمكن له أن يدرك بمنتهى السّهولة من هؤلاء الّذين يشير إليهم الرّجل المسافر ؟ ومن هم الأعداء ؟ ومن هم موالوهم؟ ومن يحثّون على التّصدّي إليهم ؟..
إنّ هذا المنظور يؤدّي إلى رؤيتين:
1) ـ المنظور السّياسيّ العالميّ ومدى تأثيره على المستوى المحلّي
2) ـ المنظور السّياسيّ المحلّي وانعكاس التّأثير العالميّ عليه.
ويقودنا القاصّ في بقية أطوار القصّة إلى مسرح الأحداث وسط حافلة نقل عموميّ بطريقة تشبه شريطا سينمائيّا في النّقل والتّصوير... يصعد عون أمن يرتدي بدلة مدنيّة إلى الحافلة ومعه عون أمن يرتدي زيّا رسميّا (ص 68) الحافلة وهي وسيلة نقل عموميّ (شعبيّ). ولا أريد في هذا المجال أن أُحمِّل مفهوم الحافلة أعباء التّأويلات البُعديّة، ولذلك فأنا أحتفظ بها كمعنى دلاليّ للشّيء ذاته لا خارجه ولا أقول على سبيل المثال إنّها البلاد والأمّة... وتلوح "شاحنة سوداء رابضة في المحطّة تحمي فوانيسها ومنافذها شبكات سلكيّة" (ص 68) بجوار الحافلة وكأنّ الرّاوي تجاهل عن عمد وبسبق إضمار اللّون الأبيض الذي يتخلّل اللّون الأسود في سيّارات الشّرطة.
الواقعيّة تتمثّل هنا في عمليّة تمشيط مصطلح عليها محلّيّا بـ"ـالرّافل"، ومن علاماتها الواضحة في النّصّ: "هات بطاقتك..!" (ص 69) ويقصد بها الكاتب البطاقة القوميّة سابقا والوطنيّة حاليّا وهي البطاقة الشّخصيّة أو الهويّة في الـمشرق... وتتدخّل الشّخصيّة الأساسيّة في خضمّ هذه الأحداث طرفا في الموضوع لأنّ حملة التّفتيش شملتها أيضا وارتاحت لوجود بطاقتها معها وإلاّ حدث لها ما لا تحمد عقباه...
كما كشفت الشّخصيّة في زاوية ذكرياتها عن رفضها قبول بطاقة ملوّنة والمقصود بها بطاقة "الحزب الحاكم" كما اعتدّت بعدم الانتماء إلى أي ضرب سياسيّ أو غيره... وهذا الموقف الحياديّ يعبّر عن فئة كبيرة من النّاس اختارت هذا الانتماء مبدأ لها لأنّه أفضل طريق للسّلامة... يقول الشّابّ المسافر مخاطبا نفسه: "رفضت دائما أن تكون منتميا يحمل بطاقة ملوّنة تُعلن عن انتماء إلى اليمين أو الشّمال، لقد آثرْتَ السّلامة والاكتفاء بالجري وراء الخبزة تلاحقها لاهثا فلا تنال منها إلاّ النزر القليل، حتّى إنّك عجزت عن بناء عُشّ آمن تأوي إليه أنت وابنة الحلال المأمولة" (ص69). وكأنّ الكاتب هنا يصنّف مسالك الحياة السّائدة في المجتمع على النّحو التّالي:
ـ الصّنف الأوّل: أن يكون المرء من أصحاب اليمين (أي من المنضويين تحت راية الحزب الحاكم ومن المتحصّلين على شهادة براءة). وهو نمط من الحصانة يتّخذها الانتهازيّون لتبرير تجاوزاتهم وفرض لونهم على الآخرين بدون شرعيّة...
ـ الصّنف الثّاني: أن يكون المرء من أصحاب الشّمال (أي أن يكون من المعارضين فيكون من المغضوب عليهم والمتحصّلين على شهادة إدانة). وهذا نمط صعب المراس يسبّب لصاحبه تبعات لا قدرة له على مواجهتها ووجعا شديدا في الرأس...
ـ الصّنف الثّالث: أن يكون المرء من غير المنضوين تحت لواء أيّ اتّجاه سياسي|ّ ويكتفي بالعمل والجري وراء الخبزة والمعبّر عنه بمسلك الأمان.
وقد عبّر المسافر المثقّف عن صمّام الأمان في اختياره الصّنف الثّالث من السّلوك المسالم وهو اختيار رائج يضمّ جلّ اختيارات التّونسيّين من مثقّفين وغير مثقّفين من منتمين وغير منتمين... ويتأكّد هذا الموقف من صمت الشّابّ إزاء عمليّات التّفتيش لأنّها عمليّات انتقائيّة تُنقّي المجتمع المدنيّ من الطّفيليّين نظرا لعدم تحمّله المشبوه فيهم والمشكوك في انتماءاتهم وما يمكن أن يفعلوا. لذلك تمّ إنزال من كان في الحافلة حسب الانتماء التّالي:
1 ـ إنزال ثلاثة شبّان أو أربعة بدون تحديد الهويّة (ص69): الاستنتاج (هم محلّ شبهة وشكّ).
2 ـ إنزال امرأة بين الكهولة والشّيخوخة كانت تضع خمارا على رأسها (ص 69): الاستنتاج (ذلك يدلّ على انتماء طائفي سياسيّ).
3 ـ إنزال كهل ملتح: الاستنتاج (اللّحية محلّ ريبة ودليل انتماء عقائديّ سياسيّ معيّن).
هؤلاء هم المرفوضون من المجتمع المدني.
وإذا كان الخمار واللّحية رمزا لفئة معيّنة ويقصد بها الأصوليّة حسب الاصطلاح الرّسميّ فإنّ الرّاوي لم يشر إلى سبب إنزال الشبّان...فهل يمثّل الشّباب بأكمله مجالا للرّيبة ؟ أم إنّ مرحلة الشّباب في حدّ ذاتها تعدّ معبرا للانتماء أو رفضه أو عدمه ؟ ولذلك فإنّ المسافر المثقّف في الأقصوصة رفض الالتجاء إلى هذا الاتّجاه الأصوليّ للنّتائج السّلبيّة المنجرّة عنه ومنها:
1 ـ افتكاك رخصة السّياقة كما حدث لأحد الأصدقاء ( ص 70)
2 ـ رفض قبول ملفّ أحد الرّاغبين أحد الرّاغبين في السّفر إلى الخارج لاستخراج جواز سفر لأنّه ظهر في الصّورة التي قدّمها ملتحيا (ص 70)
3 ـ طرد موظّف من عمله لأنّه كان ملتحيا وحرمانه من التّنقّل في ردهات الإدارة وبين مكاتبها ( ص 70).
هذه الأسباب وغيرها جعلت المسافر يرفض اللّحية ولا يرى مشقّة في نزع الشّارب إذا ما حرّم مستقبلا...قال الرّاوي: "لقد صدرت أوامر رسميّة شفويّة بحلق تلك اللّحى جميعا. لقد أصبحت اللّحية في هذا الزّمن مصدر ريبة وشكّ لمن يحملها بلاء والويل لمن أصرّ على إبقائها بدون حلق" (70) وخاطب المسافر نفسه قائلا: " من يدري لعلّ الشّارب الذي يتوسّط وجهك الآن يصبح ذات يوم ممنوعا غير مرغوب فيه هو أيضا" ( ص71).
وانتهت الأقصوصة بموقف مجابهة بين ملتحي كهل ذي لحية يشبه لونها لون الحنّاء ولم يكن يحمل معه بطاقة وعون تفتيش... إلاّ أنّ الملتحي وجد نفسه في مأزق لم يخرج منه إلاّ بعد تفطّنه لما يحمله داخل قفّته كانت معه وهي "قارورة حمراء" مقدّما إيّاها بدل بطاقة الهويّة..."أزاح منديلا كان يغطّي به قفّته وأخرج قارورة حمراء، ونظر إليها بكثير من المودّة ورفعها عاليا:
ـ هذه هويّتي ألا تكفي ؟"(ص 72).
والاستنتاج هنا أنّ بطاقة التّعريف ليست وحدها التي تحدّد الهويّة فالشّكل والمظهر والسّلوك الظّاهري كلّها تحدّد نمط الهويّة أيضا...
قال الكهل الملتحي في آخر جملة من الأقصوصة: "ـ اللّحية أوقعتني والقارورة أنقذتني". (ص 72).
هذه القصّة ذكّرتني بقصّة للأديب الرّوسيّ "أنطون تشيخوف" تتحدّث عن رجل مسنّ ملتحي دخل الحمّام العموميّ قصد الاستحمام إلاّ أنّه كان محلّ ريبة من صاحب الحمّام الذي لم يتردّد في الاتّصال برجال الأمن طالبا منهم التدخّل السّريع لإلقاء القبض على الرّجل الملتحي بتهمته أنّه "صاحب أفكار" وانتهي الأمر بألقاء القبض عليه وتسريحه فيما بعد لأنّه لم يكن "صاحب أفكار" مثلما زعم صاحب الحمّام وإنّما كان صاحب "خرفان".
وملتقى القصّتين هو فيما تخفيه الظّواهر من خدع إذ لا يُعرف الباطن بالظّاهر وإنّما هناك عوامل أخرى يجب أن تحدّد ويُقرأ لها حساب. ولا أدري إلى من وجّه الكاتب النّصيحة ..؟
خاتمة
نلاحظ أخيرا أنّ متتبّع كتابات بوراوي عجينة القصصيّة يلاحظ بجلاء محافظة هذا "الرّجل" على نمطيّة في الكتابة فهو لا يدخل البيوت إلاّ من أبوابها ولا يخرج إلاّ من خلالها... ولذلك فجميع المنافذ الأخرى إنّما تلعب وظائفها التي أعدّت لها...
بوراوي سعيدانة