رسائل مفتوحة الى الزعيم عبد الكريم قاسم

من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة

هذه المقالة مرشحة للنقل و النسخ إلى ويكي مصدر.

اصدرت حكومة الجمهورية العربية المتحدة سلسلة من الرسائل المفتوحة إلى الحكومة العراقية معنونة إلى رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم نشرتها جريدة الاهرام وعلى شكل مقالات بصراحة ذائعة الصيت بقلم الاعلامي محمد حسنين هيكل. وذلك لقطع العراق للعلاقات الدبلوماسية بين البلدين والحملة الاعلامية التي كانت تذاع من الاذاعة والتلفزيون والصحافة الحكومية العراقية والتي تضمنت اتهامات رأت الحكومة في القاهرة لابد من الاجابة عليها واماطة اللثام عن العديد من الوقائع والوثائق والبرقيات التي تعزز وجهة نظرها. ولم ترد الحكومة العراقية على ماورد في تلك الرسائل المفتوحة. بل ازدادت الحرب الاعلامية ضراوة .

[تحرير] كلام صريح وأمين موجه إلى اللواء عبد الكريم قاسم رئيس وزراء العراق-الجزء الاول

مقالات بصراحة - الأهرام- بتاريخ 27/ 1 /١٩٥٩


يا سيادة الزعيم الأوحد.

دعنا نواجه المسائل بصراحة وأمانة، فإن الشعب العربى اليوم تكاد أن تختلط عليه الأمور. تستبد به الحيرة، تعصره الشكوك، تعذبه الأوهام!

وكيف لا يكون هذا حاله - يا سيادة الزعيم - وهو يسمع إذاعة العراق الرسمية تنقل إليه ما يجرى في محكمة العراق الرسمية، من تهجم على الجمهورية العربية المتحدة، ومن سب لها وشتم، ومن اتهام ضدها وافتراء، حتى لقد وصل الأمر إلى حد أن يقال أن راونترى وجد له في القاهرة وفى دمشق أعواناً جدداً، وأن الدولار قد عثر في القاهرة ودمشق على عباد له أو عبيد ينصاعون لأوامره ويخضعون لرغباته! إلى هذا الحد، يا سيادة الزعيم، وصل الحال في محكمة العراق الرسمية وبعدها في إذاعة العراق الرسمية. والناس في العالم العربى كله يسمعون ولا يفهمون، يهزون رؤوسهم ولا يعون، تخبط الكلمات آذانهم وتدقها، وتأبى عقولهم وقلوبهم، أن تتخيل أو تتصور أن هذا الذى يقال، كان يمكن حتى في أضغاث الأحلام أن تهمس به الأشباح المجنونة التائهة في كوابيس الليل المزعجة!

وعلى أعصاب الناس وحدها - يا سيدى الزعيم - هذا العبء المخيف بين ما تسمعه آذانهم من بغداد اليوم - وبين ما كانت المنى تصوره لهم منذ عهد ليس ببعيد، صباح ارتفعت أعلام الثورة في بغداد. وإن جال بخاطرك يا سيدى الزعيم الأوحد - لكى لا ننسى - أن هذا الحديث كان يجب أن يوجه إلى قاضى المحكمة، أو إلى ممثل الادعاء فيها، أو إلى مدير الإذاعة التى روت ونقلت، فإن هذا الخاطر وهم يا سيدى. لأنه ساعتها - يا سيدى - يفقد الحديث الصريح الأمين معناه، فإننا ساعتها نكون كمن يتحدث من خلف الأستار ومن وراء الجدران، وساعتها تكون المسألة كلها سخرية من أنفسنا ومن الناس. إن قاضى المحكمة يا سيدى ستار وجدار!

وممثل الادعاء يا سيدى ستار وجدار.

ومدير الإذاعة يا سيدى ستار وجدار.

وإذا كان للحديث أن يكون صريحاً وأميناً، فلتخرج يا سيدى من وراء الأستار والجدران، ولتواجه الموقف مباشرة وفى النور، من أجل عقول الناس وقلوبهم وأعصابهم. ونقسم يا سيدى أن يكون الحديث رقيقاً رفيقاً، محاطاً بكل ما ينبغى نحوك من مهابة واحترام، لأنك يا سيدى الزعيم - الأوحد - مازلت برغم ما كان وما يكون قطعة من أمل عزيز، رعيناه وباركناه، وبذلنا كل ما نملك لنحميه، حتى الماضى والحاضر والمستقبل، دفعنا بها جميعاً في غير ما تحفظ أو تردد إلى ظلام المعركة وضبابها دفاعاً عنه وقتالاً، لكى يبقى ويعيش، وتطلع عليه شمس الحرية وينسكب عليه ضياء السلام.

هذه هى البداية:

ولنبدأ يا سيدى منذ البداية، لتكون الحلقات متصلة، وحتى تتضح الحقيقة للناس. كيف كانت البداية يا سيدى، وأين، ومتى؟

أنت تعرف التفاصيل كلها يا سيدى.

إن البداية لم تكن فجر 14 يوليو، يوم الثورة في العراق يا سيدى، وإنما كانت قبل ذلك بزمان طويل. كانت يا سيدى قبل عام من الثورة على الأقل... أنت تذكر.

فى ذلك اليوم يا سيدى سعيت، وسعى معك زميلك وصديقك وشريكك في الثورة - عبد السلام عارف - لكى تتصل بدمشق والقاهرة وتبعث برسالة إلى الرئيس جمال عبد الناصر.

وكنت يومها في الأردن ومعك عبد السلام عارف.

وتسللتما ذات ليلة في السر إلى قرية على الحدود مع سوريا والتقيتما بعدد من المسئولين السوريين وسألتماهم إن كان منهم من يستطيع أن ينقل رسالة منكما إلى القاهرة. ومع ذلك فلنسم الأشخاص بأسمائهم لكى تكون الصورة كلها واضحة لا لغز فيها ولا طلسم. تلك الليلة، في الدرعا، على الحدود السورية الأردنية، التقيتما، أنت وعبد السلام عارف بأمين النفورى وزير المواصلات اليوم وأحمد عبد الكريم وزير البلديات وعبد الحميد السراج وزير الداخلية في الإقليم السورى!

هل تذكر يا سيدى؟

تذكر طبعاً!

وفى تلك الليلة يا سيدى، تكلم عبد السلام عارف أمامك، وأفضى بالسر كاملاً إليهم ثم تكرر اللقاء ثم كانت رسالة محددة منكما، طلبتما أن تنقل إلى القاهرة، ويطلب من القاهرة الرد عليها:

الرسالة:

"إن هناك تنظيماً سرياً في الجيش العراقى، وإن ضباط هذا التنظيم قد فاض بهم الألم وما عادوا يطيقون الصبر أو يقدرون عليه، وإنهم سوف يتحركون مهما كلفهم الأمر ضد نورى السعيد وكل من يمثله، ابتداءً من حلف بغداد، إلى التآمر على القومية العربية". هذه هى الرسالة.

والرد الذى يطلبونه عليها:

"إنهم يريدون أن يعرفوا من القاهرة، كيف يمكن أن ينظموا صفوفهم، وكيف تبدأ حركتهم وما هو السبيل إلى وضع خطة، ثم ما هى الضمانات التى تستطيع القاهرة أن تقدمها لهم، وما هو مدى المساعدة التى يمكن أن تبذل لحمايتهم وحماية العمل الذى يقومون به؟ ". تذكر يا سيدى الزعيم ذلك طبعاً ولا تنساه ولعلك يا سيدى أيضاً تذكر ولا تنسى الرد الذى وصل إليكما من القاهرة.


لقد طار عبد الحميد السرّاج بعد لقائه بكما إلى القاهرة يحمل الرسالة ويطلب الرد من الرئيس جمال عبد الناصر شخصياً.

ثم عاد السراج يحمل الرد. .ماذا كان الرد يا سيدى؟

كان الرد:

1 - أن خير ضمان للذى تشعرون أن واجبكم يدعوكم إليه هو أن تحفظوا أمركم سراً حتى علينا.

2 - إنكم وحدكم تقدرون على وضع الخطة التى تتلاءم مع ظروف بلادكم، والخطة التى نجحت صباح 23 يوليو في القاهرة لا تصلح للتطبيق في بغداد بسبب اختلاف الظروف.

3 - إن الذى يضع الخطة لابد أن يكون هو نفس الذى ينفذها، لأن كل خطة ناجحة يجب أن تكون مرنة في نفس الوقت، تشكل نفسها في حدود الفكرة العامة، مع تطورات التنفيذ دقيقة بدقيقة، ولو أن خطة 23 يوليو نفذت بحذافيرها كما وضعت قبل بدء التنفيذ لما لاقت النجاح الذى لاقته، ولذلك يجب أن يضع الخطة لأى عمل في العراق من يملك ساعة التنفيذ أن يغير ويبدل بما يتلاءم مع التطورات ويستفيد منها.

4- إن الذى يريد أن يقوم بعمل ثورى لا يسأل عن الضمانات، وإنما هو يقدر موقفه، وضمانه الوحيد هو استعداده لبذل آخر قطرة من دمه في سبيل ما يؤمن به من هدف.

5 - إن الفكرة والخطة والهدف، يجب أن تنبع من العراق لكى لا يكون مجالاً للتشويش على الثورة بعد وقوعها بأنها كانت من وحى بلد بذاته أو شخص بذاته.

6 - إن الفرص لنجاح ثورة في العراق واسعة عريضة.

إن الرأى العام العربى أولاً سوف يهب لحمايتها.

إن البلاد العربية كلها تحكمها الآن تيارات متحررة، ولقد اختلفت الظروف الآن عما كانت عليه مثلا سنة 1952 عندما قامت الثورة المصرية، فلقد كانت المنطقة كلها في ذلك الوقت تحت حكم الاستعمار مباشرة أو تحت حكم أعوان الاستعمار.

وأخيراً، فإن كل حركة للتحرر في العراق، تستطيع أن تطمئن من غير اتفاق ومن غير سابق تشاور، أنه في اللحظة التى تعلن فيها عن نفسها، سوف تلقى من القاهرة، كل ما وراء القاهرة وما أمامها من عون وتأييد بالعمل، وليس بمجرد إلقاء الخطب.

ذلك كان هو الرد يا سيدى.

رد صادق مخلص، لا يستغلك ولا يلعب بك، لا يتدخل في أمرك ولا يفرض عليك، يخلص لك النصيحة ويضع أمامك عبرة التجربة.

.. ثم يقف وراءك إلى غير ما حدّ، من غير ما اتفاق، ويطلب منك أن تحفظ سرك، ويكتم في قلبه نفس السر لا يبوح به حتى بعد قيام الثورة!

مرة أخرى:

ومرت الأيام يا سيدى ومرت الأيام.

وكانت عيوننا من بعيد تحرس رفاقك جميعاً وتتابع نشاطهم.

وفى أكثر من مرة يا سيدى عاودتم الاتصال وكررتموه، بل وطلبتم مرة أن يجتمع واحد من ضباطنا بواحد من ضباطكم وليكن الاجتماع في روما مثلاً لتنسيق الخطة.

تذكر يا سيدى.

وقلنا، قلنا يا سيدى وما زلنا نؤمن بما قلنا:

- ذلك خطأ، إننا لا نريد تثبيط هممكم ولكن افهموا ذلك جيداً واستوعبوه لكى يكون عملكم ناجحاً يجب أن يكون هدفه من داخل العراق، وخطته من داخل العراق.

إن دخولنا معكم في أى تفاصيل قد يضفى على عملكم ظل المؤامرة. أما قيامكم أنتم وحدكم بما تؤمنون فإنه واجبكم فهو عمل ثورى أصيل. هذا رأينا بشرف وصدق.

بل أكثر من ذلك، لا تقولوا لنا متى تريدون أن تقوموا أو تتحركوا. وإنما ثقوا من شىء واحد وتأكدوا منه.

فى اللحظة التى يرتفع فيها علم الثورة في بغداد، سوف تكون المنطقة العربية كلها جيشاً معبأً يحمى الثورة في بغداد.

كذلك كانت البداية يا سيدى الزعيم - كذلك كانت البداية.

وارتفعت الأعلام:

ثم كانت الأحداث بعد ذلك - يا سيدى الزعيم - استطراداً منطقياً لهذه البداية. قدت أنت وعبد السلام عارف ثورة عراقية أصيلة.

فماذا كان موقفنا بعدها؟

كان موقفنا بعدها، تأكيداً لما قلناه قبلها، ودعنى يا سيدى الزعيم أروِ لك التفاصيل فلقد كان من حسن حظى أننى عشت بنفسى أحداثها.

فى الساعة السادسة والنصف من صباح 14 يوليو 1958، تلقى الرئيس جمال عبد الناصر في غرفته، في فيللا بريونكا التى كان ينزل فيها في زيارته الرسمية لبريونى ضيفاً على ماريشال يوغوسلافيا العتيد تيتو - أول نبأ عن قيام الثورة فعلاً في بغداد.

وبالتليفون المفتوح، لا شفرة ولا رسائل مغلقة، اتصل الرئيس جمال عبد الناصر بالمشير عبد الحكيم عامر نائبه في القاهرة وقائد جيوش الجمهورية العربية المتحدة.

وفى ذلك الصباح الباكر، والثورة بعد في دقائقها الأولى، والغموض يحيط بالصورة من جميع نواحيها، والاحتمالات كلها ما تزال في الغيب لم تتضح، طلب الرئيس جمال عبد الناصر من المشير عبد الحكيم عامر ما يلى:

1 - على إذاعة القاهرة أن تحدد موقفها فوراً وأن تقف من غير تردد بجميع إمكانياتها وراء الثورة في بغداد، ولتقف جميع وسائل التوجيه والنشر من غير تحفظ مؤيدة لما حدث في العراق، لتعبئ الرأى العام العربى كله دفاعاً معنوياً عن الثورة والثوار.

2 - تعلن التعبئة العامة لكل القوات المسلحة للجمهورية العربية المتحدة، وتكون على استعداد كامل، لخوض المعركة في أى مكان، مهما كان الثمن.

وكانت آخر عبارة قالها الرئيس جمال عبد الناصر، في التليفون المفتوح من بريونى إلى القاهرة:

ـ عبد الحكيم... إننى أرى أن حماية الثورة في العراق هى معركتنا.

إذا ضربت ثورة العراق في المهد، فإن الذى يضربها سوف يستدير بعدها ليضرب سوريا، ثم مصر.

إن معركة الحرية في العالم العربى كله واحدة، وأنا أقول لك هذا الكلام وأعلم أن آذانا كثيرة تصغى إليه، وأنا أريدهم على أى حال أن يسمعوا، وليس عندى سر أخفيه.

ثم تطورت الحوادث يا سيدى الزعيم - تطورت الحوادث!

قطع جمال عبد الناصر رحلته وركب البحر عائداً ليشترك في المعركة، جندياً مع جنودها. ومن على الباخرة العائدة على الأدرياتيك إلى البحر الأبيض، سمع نبأ نزول القوات الأمريكية في لبنان.

وأنت تعرف يا سيدى ماذا فعل، أنت تعرفه.

من على ظهر الباخرة يا سيدى أصدر بيانه المشهور:

"إن العدوان على الجمهورية العراقية، عدوان على الجمهورية العربية المتحدة، وأن الجمهورية العربية المتحدة ستقاتل جنباً إلى جنب مع جمهورية العراق".

أنت تعرف ذلك يا سيدى، تعرفه، لأنه في ذلك الوقت كانت إذاعة بغداد تردد هذا البيان المشهور مرة كل عشر دقائق، لكى يعرف شعب العراق العظيم أنه لا يقف وحده في المعركة.

وأنت تعرف يا سيدى مدى الأخطار التى كان يتعرض لها راكب الباخرة العائد إلى البحر الأبيض ليشترك في المعركة معك، ومع رفاقك، ومع جنودك.

ولقد وجد ماريشال يوغوسلافيا من واجبه أن يستوقفه وهو في عرض البحر برسالة يقول فيها: "إننى أناشدك أن لا تتقدم إلى البحر الأبيض.إن أساطيل الدول التى تعتبرك الخطر الأكبر على خططها تتربص بك. إننى أرجوك حرصاً على مصلحة القضايا التى تؤمن بها أن تعود لكى نبحث الأمر سوياً ".

وكان نيكيتا خروشوف رئيس وزراء الاتحاد السوفيتى ورجله القوى، من نفس الرأى والتفكير، ولقد قال بنفسه للرئيس جمال عبد الناصر حينما التقى به بعدها بساعات في موسكو:

- لقد كنت في ذهول من أمرك وأنت تركب الباخرة إلى البحر الأبيض. ما كان أعظمها من فرصة متاحة لأعدائك وأعداء بلادك. هل يخالجك شك في أنهم كانوا يريدون أن يجعلوا منك طعاماً شهياً للسمك لقد كنت واثقاً أنهم في انتظارك بالغواصات إذا كنت تركب البحر، أو بالصواريخ إذا كنت تعبر الجو. وأنت تعرف يا سيدى أن جمال عبد الناصر قطع رحلته بالبحر وعاد إلى بريونى لا ليحمى نفسه، وإنما لكى يحارب نفس المعركة معك.

ليشترك جندياً يحمى الثورة التى وضعتك فوق رأسها في العراق. لهذا عاد، يا سيدى الزعيم الأوحد، ولهذا طار في الليل من بريونى إلى موسكو. ولهذا، يا سيدى الزعيم، قضى عشر ساعات يتباحث مع خروشوف لكى يخوض المعركة بجانب ثورتكم وهو على بينة من أمره.

ولهذا أيضاً يا سيدى الزعيم، ركب طائرة أخرى عند الفجر، وعاد بقرب تركيا والقواعد الأمريكية القابعة فيها، وفوق إيران وحلف بغداد ما زال يحكمها، ثم فوق العراق، ثم ألقى نظرة على بغداد الثائرة من بعيد.

وسئل، بل وقيل له بعدها:

- هل تريد أن تنزل في بغداد، لماذا لا تجىء وتشارك الناس في بغداد فرحتهم. وقال بيقين:

- لا، إنه يومهم، وتلك فرحتهم. ثم استطرد:

- لا ينبغى أن يكون في بغداد اليوم موكب إلا موكب الثورة، ولا هتاف إلا لأبطالها. ثم هبط في دمشق... في قلب الميدان، في صميم المعركة. خلفه قوات أمريكية تنزل من البحر إلى لبنان وأمامه قوات بريطانية تهبط من الجو إلى الأردن. اسألهم يا سيدى:

وكانت الأحداث يا سيدى الزعيم ما زالت تجرى، ما زالت تجرى. وجاء إليه من بغداد وفد يرأسه رجل كان طليعة القوات الثائرة التى صنعت ثورة بغداد، وكان يا سيدى الزعيم، نائبك وشريكك وصديقك.

ولديك يا سيدى الزعيم - لديك محاضر ما دار في دمشق. طلب عبد السلام عارف ميثاق دفاع مشترك، ولقد كنا معكم من قبل الميثاق بكل ما نملك، ووقعنا الميثاق كما طلبتموه.

وأمامك - يا سيدى الزعيم - وزير خارجيتك "جومرد" فاسأله، لقد كتب الميثاق بنفسه ووقف يطبعه بيده على الآلة الكاتبة.

ووقعنا الميثاق كما طلبتموه.. عسكرياً اقتصادياً ثقافياً. وقال لكم جمال عبد الناصر، قال لعبد السلام عارف، أمام صديق شنشل وهو ما زال بعد وزيراً في وزارتك، وأمام جومرد، وهو لا يزال بعد وزير خارجيتك، وأمام محمد حديد، وهو ما زال بعد وزير ماليتك، وأمام عدد غيرهم من ضباطك:

- إن كل ما عندنا تحت تصرفكم، ما تريدونه خذوه. وطلبتم يا سيدى سلاحاً وذخيرة للسلاح لأن الإنجليز يضعون ذخيرة جيشكم في مخازنهم في قبرص. وكان لدينا يا سيدى في غنائم قاعدة القناة من الأسلحة والذخائر ما يصلح لجيشكم وبدأت السفن تتحرك من السويس إلى اللاذقية، والبحر الأبيض يومها يعجّ بما يتحفز فوق أمواجه من البوارج وحاملات الطائرات والمدمرات والغواصات.

وكانت السفن تحمل الذخيرة إليكم.

وكانت سيارات جيشكم وسيارات الجيش الأول السورى تصنع خطاً متصلاً لا ينقطع من اللاذقية إلى بغداد. وطلبتم يا سيدى الزعيم طائرات بطياريها ليكونوا تحت تصرف قيادتكم في العراق وطارت يا سيدى الزعيم إليكم الطائرات.

وطلبتم يا سيدى الزعيم شبكة رادار لأن الاستعمار لم يترك في العراق كله شبكة رادار تحمى أجواءه وتنبه الذين يحرسونه إلى أن غريباً تسلل إلى جوّهم إذا تسلل غريب.ووصلت على الفور يا سيدى الزعيم إليكم شبكة الرادار.

ثم ماذا أيضاً يا سيدى الزعيم؟

فى ذلك الوقت طرقت أبواب الحديث في موضوع الوحدة بفكرة أنها ستكون موضوعاً لمناقشة محددة في يوم قريب فماذا كان الرد يا سيدى الزعيم؟

كان الرد، ولابد أنك تذكر، هو:

- أن الثورة في العراق ما زالت بعد في أيامها الأولى. وأمامكم في الداخل أعباء لابد من مواجهتها ولابد أن تتفرغوا لها ولا يشغلكم عنها شىء. كذلك أمامكم في الخارج مشاكل، وليس من صالحكم أن تتحملوا إذا قام الآن نوع من الوحدة بيننا تبعات عداوات تتربص بنا، ولسوف يصيبكم منها نصيب، لو تحقق الآن نوع من الوحدة بيننا. كذلك لابد أن تتبلور عندكم أفكار وتيارات شعبية، فإن الكبت الطويل الذى فرضه الحكم السابق على شعب العراق، لم يدع لهذا الشعب فرصة يظهر فيها إرادته وينبغى أن تكون لشعب العراق فرصة كاملة مفتوحة، لا يقيدها أمر واقع نقرره الآن.

ثم دعونا الآن نتفرغ لمواجهة احتمالات العدوان المتربصة بنا... وأن وقوفنا صفاً واحداً لمواجهة العدوان لهو أقوى مراتب الوحدة. ذلك حدث بحذافيره - يا سيدى الزعيم الأوحد - وأنت تذكره، فإن شهوراً ستة فقط مضت بعده وتعاقبت. فماذا حدث في هذه الشهور الستة لتكون النتيجة ما يسمعه الناس الآن من محكمة بغداد الرسمية وتنقله عنها إذاعة بغداد.

أسفاه يا سيدى... أسفاه:

بعد هذا كله تقول محكمتك وتردد إذاعتك - أجل محكمتك وإذاعتك يا سيدى وإلا فمحكمة من هى وإذاعة من هى

- تقول محكمتك وتردد إذاعتك.

أن مؤامرات في القاهرة ودمشق تدبر ضد بغداد.

أن راونترى وجد له في القاهرة وفى دمشق أصدقاء جدداً لسياسة أمريكا. أن القاهرة ودمشق تريدان السيطرة على بغداد وتطمعان في نفط العراق، ولهذا تريدان فرض الوحدة على شعب لا يريدها.

وليت الصمم أصاب آذاننا لكى لا نسمع ما نسمعه الآن في بغداد يا سيدى، وليت العمى أصاب عيوننا لكى لا نراه الآن في بغداد يا سيدى، وليت الخرس أصاب ألسنتنا لكى لا تبدر منا حتى كلمة عتاب يا سيدى.

ولقد كان ذلك كله - أؤكد لك يا سيدى - يهون ولا يجرى الذى جرى أو يكون. ومع ذلك فما الذى جرى وما الذى كان ‍؟!

الشقاق والخلاف: مادمنا - يا سيدى الزعيم الأوحد - نواجه المسائل بصراحة وأمانة، فلتكن الصراحة والأمانة من بداية الحديث إلى نهايته. بعد أسبوع أو أسبوعين من بداية الثورة دب الشقاق بينك وبين نائبك وشريكك وصديقك عبد السلام عارف.

وليس ذلك يا سيادة الزعيم شأننا، ولا هو مما يجوز لنا أن نتدخل فيه، إنها مشكلتك ومشكلة عبد السلام عارف وحدكما.

وإنما نذكر موضوع الشقاق هنا - يا سيادة الزعيم - لكى تترابط الحوادث، وتتصل الحلقات. وقع الشقاق إذن بينكما يا سيادة الزعيم، ودب الخلاف، واشتعلت الغيرة. وكنت تقول يا سيدى:

- "إن عبد السلام عارف ينسب الثورة لنفسه، لأنه هو الذى قام بتنفيذها وينسى في ذلك أننى قائد الثورة". ولما أحسسنا هنا في القاهرة بالذى يجرى في بغداد، دعينا يا سيدى الزعيم، طائفة من رؤساء تحرير الصحف في القاهرة ومحرريها، إلى اجتماع صحفى قيل لنا فيه لأول مرة أمر الخلاف بينك وبين عبد السلام عارف، ثم قيل لنا بعدها :

- إن الصحافة المصرية مطالبة الآن بأن لا تزيد من هوة الخلاف. وأن المصلحة العربية العليا تقتضى أن تقلل الصحف من نشر صور عبد السلام عارف ومن تصريحاته. إن عبد الكريم قاسم بصرف النظر عن أى شىء هو رأس ثورة العراق، ولذلك يجب أن يكون الكلام له وعنه. ذلك حدث يا سيدى الزعيم الأوحد، أؤكد لك. وأعداد الصحف المصرية كلها تحت تصرفك تشهد بالدليل والبرهان على أنه ما أن بدأ الشقاق بينك وبين عبد السلام عارف يظهر، حتى التزمت صحف القاهرة كلها جانبك، من غير هجوم على عبد السلام عارف بطبيعة الحال. كنت بالنسبة لنا، رأس الثورة في العراق. وإليك وعنك - على هذا الأساس - كان الكلام. مجرد دهشة‍!

ثم تطور الخلاف بينك وبين عبد السلام عارف.

وشارك أصحاب الهوى والغرض في توسيع شقة الخلاف، حتى كان اليوم الذى أعفى فيه عبد السلام عارف من منصب نائب القائد العام للقوات المسلحة. وتابعنا الذى حدث بدهشة يا سيادة الزعيم الأوحد - لا لأنه حدث فلقد كان رأينا دائماً، أنه إذا لم يكن أمل في عودة الصفاء بينكما، فإنه لابد لعبد السلام عارف أن يتنحى ويبتعد حرصاً على سلامة ثورة العراق.

ولكن ذلك أيضاً لم يكن شأننا، ولا كان مما يجوز لنا أن نتدخل فيه. وإنما كما قلت لك - يا سيادة الزعيم - أدهشتنا الطريقة التى تم بها إعفاء عبد السلام عارف... مجرد دهشة.

كان مجلس الوزراء العراقى مجتمعاً وكنت تحضره وكان عبد السلام يحضره معك وفى وسط الاجتماع يا سيدى استأذنت وخرجت لنصف ساعة، ثم عدت إلى الاجتماع، ومضى الاجتماع وانتهى بعد منتصف الليل، ولا أحد يشعر أن شيئاً حدث في نصف الساعة التى غبتها عنه.

وخرج عبد السلام عارف مع غيره من حضور الاجتماع وراح يركب سيارته، وإذا سائق السيارة يسأله:

- ماذا حدث؟ لقد أذاعت محطة بغداد أنك أعفيت من منصب نائب القائد العام للقوات المسلحة؟ وذهل عبد السلام عارف، ولم يركب السيارة وإنما كرّ عائداً إلى حيث كنت يا سيدى ومعك بعض الوزراء يتحدثون إليك قبل انصرافهم من اجتماع المجلس. وسألك عبد السلام، أمامهم جميعاً يا سيدى عما حدث، وقلت له يا سيدى والدموع تترقرق من عينيك إنك كنت مغلوباً على أمرك، وأن قواد الفرق الأربعة اجتمعوا وقرروا ضرورة تنحية عبد السلام عارف، وأنك توسلت إليهم لكى يعدلوا عن قرارهم ولكنهم صمموا وأنك تحت الضغط وافقت ولم يكن مفر أن توافق، ثم كان لابد أن يذاع النبأ فأذيع. وسألك عبد السلام:

- لماذا لم تقل لى بعد أن عدت إلى قاعة المجلس، أو لماذا لم تقل لمجلس الوزراء ما حدث؟ وقلت يا سيدى:

- إن قلبى لم يطاوعنى يا عبد السلام!

وبقيت ساهراً - يا سيدى - إلى الصباح، وبقى عبد السلام عارف معك، وبقى معكما عدد من الوزراء يحاولون تهدئة المشاعر من أجل سلامة الثورة في العراق. ومع ذلك - يا سيدى - فذلك كله شأنك وليس من حق أحد أن يتدخل فيه.

ولكن النزاع بينك وبين عبد السلام عارف - يا سيدى - أثّر على الصورة كلها. كانت لعبد السلام عارف شعبية وسط الرأى العام في العراق، ولم يكن ذلك شاذاً ولا مستغرباً. كان عبد السلام أحد زملائك، بدليل أنك جعلت منه نائباً لك في قيادة الجيش وفى رياسة الوزارة. ولقد أردت، يا سيدى - وذلك مرة أخرى شأنك - أن تكون لك قوى تعتمد عليها إذا تأزمت الأمور بينك وبين عبد السلام عارف.

كنت تريد قوة في الشارع، تظهر بالتجمعات والهتافات، ما يبين أن الشعب يؤيدك وحدك ولا يؤيد عبد السلام، وكنت تريد أيضاً أن تكون هذه القوة قادرة في نفس الوقت على العمل ضد من ينتصر لعبد السلام.

هنا يا سيدى بدأ الدور الكبير في الوقيعة، لا بينك وبين عبد السلام عارف وحسب وإنما كانت للذين قصدوا ليلعبوا هذا الدور أهداف أخرى غير أهدافك يا سيدى. وأنا أؤمن يا سيدى أنه في ذلك الوقت لم يكن في ذهنك إلا معركتك مع عبد السلام عارف ولم يخطر ببالك أن الأمر قد يتسع ليصبح أكثر من ذلك.

ولقد استعنت يا سيدى بالشيطان ضد عبد السلام عارف.

ولكن الشيطان يا سيدى - لم يحارب المعركة لوجه الله.

كانت للشيطان - يا سيادة الزعيم الأوحد - أهدافه وأغراضه ومقاصده.

ولم يكن الشيطان، شيطاناً واحداً يا سيدى وإنما كان الشيطان فرقة شياطين.

فرقة شياطين، ومن عجب أنها جمعت المتناقضات.

الاستعمار، الحزب الشيوعى، الانتهازيون.

السفير البريطانى:

وذات يوم، يا سيدى الزعيم، دخل عليك السفير البريطانى في بغداد السير مايكل رايت، يقول لك وهو يعرف أن ما يقول يلاقى في نفسك صدى، فإن السفير البريطانى - يا سيادة الزعيم - يعيش في بغداد ويعرف ما يجرى في سراديبها.

قال لك السفير البريطانى، ولقد أبلغت أنت الأمر بعدها لمجلس الوزراء:

"إن عبد السلام عارف يتآمر ضدك، وإن عناصر من حزب البعث تؤيده "

ثم قلت أنت يا سيدى الزعيم:

"إن السفير البريطانى قد حمل إليك خمسة تحذيرات متعاقبة من مؤامرات يدبرها عبد السلام عارف ضدك". وجاء الحزب الشيوعى، يا سيادة الزعيم في أعقاب السفير البريطانى يحمل إليك من المعلومات ما يرضى الاتجاه الذى حزمت رأيك عليه:

"إن عبد السلام عارف يتآمر، ويتآمر معه عدد من الضباط، وأن الفكرة هى المناداة بوحدة مع الجمهورية العربية المتحدة.

وقيل لك، يا سيدى في ذلك الوقت:

- إنهم يريدون أن يسلبوك منصب رئيس وزراء العراق، واحتمالات رئاسة الجمهورية فيه بعد ذلك، ثم لا يكون أمامك بعدها إلا أن ترضى بلقب شرفى، حتى لقب المواطن العربى الأول سبقك إليه شكرى القوتلى وليس أمامك خيار، بعد رئاسة الوزارة، وبعد احتمال رئاسة الجمهورية إلا أن تصبح المواطن العربى الثانى!

كذلك قالوا لك يا سيدى!

ولا أستطيع أن أجزم إن كنت وقتها صدقت على الفور، أم أن التصديق سبقته مرحلة من التردد. ولقد طلبوا منك يا سيدى أن تؤمن نفسك ضد هذه الأخطار التى صوروها لك. ثم لم ينتظروا يا سيدى، وإنما راحوا يحاولون - على رأيهم وعلى مسئوليتهم - ولأغراضهم بالطبع يا سيادة الزعيم، يؤمنون لك الخطر الشديد.

كانوا يعملون لحساب أنفسهم ويصورون لك أنهم من أجلك يعملون. كان الشيطان يبدو وكأنه أذاب نفسه تفانياً في خدمتك. والشيطان - يا سيادة الزعيم - لا يخدم إلا مآرب نفسه. ثم تلاحقت الحوادث يا سيادة الزعيم تلاحقت.

وكما خرج عبد السلام عارف من منصب نائب القائد العام، خرج بعدها من منصب نائب رئيس الوزراء ومن منصب وزير الداخلية. وأنت يا سيدى تظهر التأثر أمامه وأمام الوزراء، وتبدو بأسى المغلوب على أمره.

ثم طلبت من عبد السلام عارف أن يعطيك فرصة لتسوّى الأمر مع قادة فرق الجيش واقترحت عليه أن يسافر إلى بون وأعطيته العهد أن يعود يوم 5 سبتمبر فيجد كل شىء كما كان بل أشد صفاء. وسافر عبد السلام عارف إلى بون.

وحين عاد عبد السلام عارف يوم 5 سبتمبر لم تكن عودته مفاجأة لك يا سيادة الزعيم، وإنما كانت عودته بناء على اتفاقك معه.

وألقيت القبض يا سيادة الزعيم الأوحد على عبد السلام عارف.

وفى فترة غيابه يا سيادة الزعيم كان الشيطان يعمل بكل طاقته.

كانت صحف الاستعمار تصور الخلاف بينك وبين عبد السلام عارف على أساس أنك تريد صيانة استقلال العراق من استعمار الجمهورية العربية المتحدة، أما هو فإنه يريد أن يجىء بأغلال الوحدة وقيودها، ويربط الحبال ويشد السلاسل!!

ووصل الأمر إلى أن خروج عبد السلام عارف من العراق صوّر في صحف الغرب، في لندن، وواشنطن، وباريس، وتل أبيب، يا سيادة الزعيم على أنه هزيمة للجمهورية العربية المتحدة!

ومن ناحية أخرى كان الحزب الشيوعى السورى، الذى وجد متنفساً له وفرصة في العراق قد بدأ يهاجم الوحدة، ويدعو ضدها، وكان الحزب الشيوعى العراقى عوناً له بالطبع وسنداً. ولم تكن الطبول التى تدق ضد الوحدة في بغداد تريد أن يكون تأثيرها داخل العراق وحده، وإنما كان الأساس في دقاتها أن يتردد الصدى في دمشق.

وكانت الوحدة ثم حل الأحزاب في سوريا قد فاجأت الحزب الشيوعى السورى على غير استعداد، في الوقت الذى كان يعتبر نفسه فيه أقوى الأحزاب السورية، وأقربها إلى السيطرة على مقاليد الأمور. ولم تكن المنظمات الشيوعية بعد ذلك تريد - فقط - أن لا يتكرر ولا في بغداد ما حدث لها من قبل في دمشق... لم تكن تريد أن لا يتكرر ذلك فقط.

وإنما كانت تريد أن تسترد الضائع وتستعيد الذى أفلت.

فتصورت إذن - يا سيادة الزعيم الأوحد - أنك تستعين بالشيطان ضد عبد السلام عارف. ولكن الشيطان كانت له في نفس الوقت مآرب أخرى. الهمسات ثم الصيحات: وفى ذلك الوقت - يا سيادة الزعيم - كانت في القاهرة حيرة إزاء هذه التطورات التى تحدث في بغداد. كان هناك قلق، وكان هناك إشفاق يا سيادة الزعيم الأوحد. كان واضحاً من هنا أن الشيطان الذى استعنت به، يريد أن يجرّك إلى منحدر وعر خطير، إلى مشكلة أكبر وأخطر من عبد السلام عارف والخلاص منه.

وكان هناك إحساس إجماعى بأنه من العدل أن تعرف موقفنا واضحاً.

كنا نريدك أن تعرف أن مشكلة خلافك مع عبد السلام مشكلتك وحدك أنت وعبد السلام. وكنا نريدك أن تعرف أننا لا نريد أن نفرض عليك وحدة، أو اتحاداً يحرمك من رياسة الوزارة في العراق ورياسة الجمهورية بعد رياسة الوزارة.

وكنا نريدك أن تعرف أنك لست في حاجة إلى عون الشيطان ضد أحد.

وسرت الهمسات من القاهرة إليك، فلقد كنا يا سيادة الزعيم نحرص على أن لا يسمع غريب أو يرى. ثم بدأت أصواتنا تعلو عندما بدا أن الهمس لا يجد طريقه إليك.

وارتفعت أصوات قوية واضحة تحاول أن تنقل إليك الطمأنينة.

ولقد كان خطاب الرئيس جمال عبد الناصر في المنيا، يا سيادة الزعيم، أقرب ما يكون إلى رسالة خاصة موجهة إليك.

قال الرئيس جمال عبد الناصر في المنيا:

"إن عبد الكريم قاسم هو قائد ثورة العراق وزعيمها. وإن القومية العربية، والوحدة العربية، هما أولاً وأخيراً التضامن العربى، وإن الصور الدستورية ليست لها قيمة بجوار التضامن المخلص الصادق.

وإن الوحدة الدستورية، لا يمكن أن تتم إلا بإجماع كامل على طلبها". كان هذا كله يا سيادة الزعيم الأوحد، شبه رسالة خاصة إليك. كان معناها واضحاً.

خلافك مع عبد السلام لا يعنينا في شىء.

الوحدة العربية في نظرنا هى التضامن العربى.

الذين يصورون لك أن هناك من يريد أن يفرض الوحدة عليك يخدعونك، إن الوحدة لا تفرض وإنما تطلب، وينبغى للاستجابة أن يكون الطلب بالإجماع.

ومن عجب - يا سيادة الزعيم الأوحد - أن هذا الخطاب، الذى لم يكن غير رسالة موجهة إليك، كان أول خطاب للرئيس جمال عبد الناصر تمنع إذاعته من محطة بغداد. لقد بدأ الشيطان عمله لحساب نفسه.

إن الشيطان الذى حاولت أن تستعمله بدأ يعكس الآية ويحاول هو أن يستعملك. سار وراءك وأنت تحاول استعماله في ضرب خصمك. ثم بدأ يجرّك وراءه وهو يحاول استعمالك في ضرب خصمه. ..... ..... ثم ماذا... القصة طويلة طويلة.

ولتسمح لنا - هنا - يا سيادة الزعيم الأوحد، بوقفة نلتقط فيها أنفاسنا ثم نتمالك أعصابنا التى يهزها الأسى هزاً ويعصرها ثم...

ثم نعود - بأسانا - نواصل الحديث!

[تحرير] كلام صريح وأمين موجه إلى اللواء عبد الكريم قاسم رئيس وزراء العراق-الجزء الثاني

مقالات بصراحة - الأهرام- بتاريخ ٣١/ 1 /١٩٥٩

يا سيادة الزعيم الأوحد

هذه هي مؤامرة الشيطان ضد القومية العربية ولعزل العراق بقية كلام صريح وأمين موجه إلى اللواء عبد الكريم قاسم رئيس وزراء العراق يا سيادة الزعيم الأوحد.

وها نحن نعود!

نعود - بأسانا - نلتقط طرف الحديث من حيث تركناه! وأين كنا يا سيادة الزعيم؟ كنا عند الدور الذى يقوم به الشيطان، أو فرقة الشياطين : الاستعمار، والحزب الشيوعى، والانتهازيون!

هؤلاء الذين واتتهم فرصة العمر، في الخلاف بينك وبين عبد السلام عارف، وفى الطريقة التى تطور بها هذا الخلاف.

هؤلاء الذين صوروا لك أنهم انطلقوا - إعجاباً بك وتفانياً فيك - يحاربون معركتك ضد عبد السلام، وما كانوا يحاربونها - يا سيادة الزعيم - إلا من أجل أنفسهم! ولقد كان عبد السلام - إنصافاً لك يا سيدى - هو هدفك في بداية المعركة. ولكن هل كان عبد السلام - إنصافاً للحق - هو هدفهم في بداية المعركة أو في نهايتها؟ إن أهدافهم كانت غير أهدافك يا سيدى كنت تفكر في خصمك

وكانوا يفكرون في خصمهم وكنت تعيش في معركة عمرها بضعة أسابيع.

أما هم - فرقة الشياطين يا سيدى - فكانوا يعيشون في معركة عمرها بضع سنوات. كنت أنت وراء شخص عبد السلام عارف، أما هم فكانوا وراء فكرة القومية العربية كلها! وليتك - يا سيدى - واجهت الأمور بصراحة وبوضوح منذ الدقيقة الأولى. إذن لما كانت بك حاجة إلى هذه الصفقة مع الشيطان.

ليتك - يا سيدى - قلت بصراحة ووضوح لا أريد هذا الرجل - عبد السلام عارف- معى! إذن لوجدت - يا سيدى - ملايين الأيدى ترتفع من كل مكان في العالم العربى، تشير إلى عبد السلام: - اخرج من أجل سلامة ثورة العراق وتنح، إن عبد الكريم قاسم يريد أن يكون زعيمها الأوحد، وينبغى لوحدة الصف أن تكون إرادته.

ومع ذلك فإن الأمانى لا تقدر وحدها أن تكتب التاريخ. والأيام - يا سيادة الزعيم الأوحد - تمضى إلى أمام ولا تعود إلى وراء. هكذا... كان ما كان!

.. الشيطان الذى حاولت أن تستعمله بدأ يعكس الآية ويحاول أن يستعملك. سار وراءك وأنت تحاول استعماله في ضرب خصمك. ثم بدأ يجرّك وراءه وهو يحاول استعمالك في ضرب خصمه..

برقية السموم:

ودعنا الآن يا سيدى الزعيم الأوحد، نتوقف قليلاً عن متابعة خطاك، لكى نحاول متابعة خطى الشيطان علّنا نستطيع أن نستكشف خطته.

ولنبدأ بأول فرقة الشياطين، لنبدأ بالاستعمار، يا سيدى الزعيم لنبدأ بالاستعمار! فى يوم 4 ديسمبر الماضى - واضغط الآن على الجرس واستدع مدير مخابراتك لكى تتقصى الحقيقة منه - دخل مراسل أمريكى اسمه "فيلبس" إلى مبنى السفارة البريطانية في بغداد وقضى ساعة وبضع دقائق مع السفير البريطانى فيها السير مايكل رايت، ثم خرج إلى مكتب البرقيات الخارجية في بغداد وبعث إلى نيويورك ببرقية نصها كما يلى:

THERE IS GROWING ALARM HERE OVER STRONG POSSIBILITY OF ANOTHER COUPAND OR REVOLUTION IN IRAQ STOP FROM BEST POSSIBLE SOURCE AM TOLD US AND BRITISH INTELLIGENCE AGREE NASSER STRONGLY SUPPORTING AN OPPOSITION MOVE IN IRAQ AGAINST KASSEM.

ومع ذلك - يا سيدى الزعيم - دعنى أوقف استعمال بقية النص الإنجليزى للبرقية فأنت تستطيع أن تأتى به إلى مكتبك، ودعنى أضع أمامك الآن نصها العربى كاملاً حتى لا يضيع الوقت من غير نفع ولا مبرر. إن النص العربى الكامل لهذه البرقية التى أرسلت في يوم 4 ديسمبر من مكتب البرقيات الخارجية هو كما يلى بالحرف الواحد:

"يتزايد الشعور بالفزع هنا من احتمال قيام انقلاب أو ثورة أخرى في العراق. قف - وقد علمت من أوثق المصادر أن ناصر يؤيد الاتجاه المعارض بالعراق ضد قاسم.. وقد أيدت المخابرات البريطانية والأمريكية ذلك - قف - تملك سفارة الولايات المتحدة أدلة قاطعة على أن المصريين يساندون الثائر القديم رشيد عالى الكيلانى بالمال والسلاح ضد قاسم - قف - قيل إن ناصر قد أزعجه زيادة النشاط الشيوعى في العراق ويحتمل أن يكون لديه الأمل في أن يتمكن رشيد عالى من إقامة حكومة ترتبط أشد الارتباط بمصر - قف -هناك بعض الشك حول هذا الموضوع كما تزداد الشكوك في أن يكون رشيد عالى يلعب دوراً مزدوجاً، أى يلعب في الظاهر لحساب ناصر، ويلعب في الباطن لحساب نفسه - قف-يعتقد البريطانيون أن الانقلاب سيأتى في يوم قريب بينما يقدر له الأمريكيون شهراً على الأقل - قف - يخشى البريطانيون بصفة خاصة من احتمال إثارة الجماهير الذين يعتبرونه سيؤدى إلى سفك مزيد من الدماء أكثر مما حدث في المرة الماضية - قف - تقول التقارير أن رشيد عالى وعد المصريين بأن يحصل لهم على تأييد عدد كبير من القبائل ولكن قيل إن ناصر يشك في تأييد الجيش لرشيد عالى، ولذلك فإن ناصر تواق إلى تدبير هذا الانقلاب ببطء للحصول على نجاح مؤكد - قف - ولو أن المصدر الذى استقيت منه هذه الأخبار لا يمكن الإفصاح عنه هنا، إلا أنه من المؤكد أن هذه الأنباء هى آخر وأدق ما وصل إليه الخبراء ورجال المخابرات الموجودون هنا، ولقد أرسلت هذه المعلومات فعلاً إلى لندن وواشنطن عن طريقهم. الإمضاء فيلبس

لقاء في الفجر:

ثم - يا سيدى الزعيم - ما هو رأيك في هذه البرقية؟

يرسلها صحفى قابل السفير البريطانى قبل أن يكتبها.

يرسلها برقية مفتوحة لتراها الرقابة على الأنباء في بغداد يرسلها بكل هذه الجرعة من السموم فيها وهو يعلم والذين أفضوا إليه بما فيها يعلمون - أنها بعد دقائق ستكون على مكتبك!

ثم - يا سيدى الزعيم - والأهم من ذلك، يطلب السفير البريطانى بذاته السير مايكل رايت - مقابلتك على الفور في اليوم التالى لإرسال هذه البرقية.

يطلب مقابلتك عند منتصف الليل يوم 5 ديسمبر، ويطلبها على الفور، لأن المسألة التى يريد أن يحدثك بها لا تحتمل انتظار الدقائق.

وتسمح له بالفعل يا سيادة الزعيم بأن يقابلك، وتتم المقابلة في مبنى وزارة الدفاع في الساعة الثانية صباحاً يوم 6 ديسمبر.

ثم يقول السفير يا سيدى - السفير البريطانى سير مايكل رايت: " إن المخابرات البريطانية وصلتها معلومات مؤكدة أن رشيد عالى الكيلانى يدبر انقلاباً ضدك، وأنه يتصل ببعض الضباط في الجيش فعلاً، وأن مالاً وسلاحاً قد وضعا تحت تصرفه ليقوم بالانقلاب، وذلك لكى يكون الطريق مفتوحاً بعدها لانضمام العراق في وحدة أو اتحاد مع الجمهورية العربية المتحدة ". حدث هذا بحذافيره يا سيدى.

ورويته بنفسك يا سيدى للذين قابلوك بعدها.

ولما خرج السفير البريطانى يا سيدى وقّعت الأمر بالقبض على رشيد عالى الكيلانى! وليس يهمنا يا سيدى ماذا تفعل برشيد عالى الكيلانى، ولكن دعنى أسألك يا سيدى: 1 - هل تعتقد يا سيدى أن السفير البريطانى مخلص لك ؟

2 - هل تعتقد يا سيدى أن السفير البريطانى صادق الحب والوفاء لك؟

3 - هل تعتقد يا سيدى أن السفير البريطانى يضمر الخير للثورة التى قدتها، وللنظام الذى تجلس على قمته؟

لماذا يا سيدى؟

لماذا، لماذا يكون ذلك شعوره نحوك؟

هل لأنك قتلت نورى السعيد صديق بريطانيا وعميلها الأول في المنطقة؟

هل لأنك أزلت حكم البيت الهاشمى من بغداد، وكان البيت الهاشمى في بغداد دعامة لبريطانيا وسنداً؟ هل لأنك وضعته هو بنفسه - السفير البريطانى السير مايكل رايت - أمام حكومته في لندن في موضع لا يحسد عليه، لقد كان يؤكد في تقاريره إلى وزارته أنّ حكومة نورى السعيد هى أكثر حكومات الشرق العربى استقراراً وأرسخها ثباتاً، ثم إذا هو فجأة، أمام نفسه، وأمام وزارته، وأمام الدنيا كلها، مثال حى للفشل والخيبة وسوء التقدير!

إذن ماذا يا سيدى - إذن ماذا؟

وألقيت القبض يا سيدى - على رشيد عالى الكيلانى - ألقيت القبض.

وشى الإنجليز لديك بالرجل الذى قاد ثورة ضد الإنجليز، وصدقت.

وهذا شأنك أنت - لا أحد يتدخل في الطريقة التى تريد أن تحكم بها بلادك، وإنما دعنى أسألك كيف يمكن أن يفسر الناس ما تلا ذلك من متناقضات؟

فى أول يوم ثورتك - يا سيدى - أصدرت قانوناً رسمياً باعتبار ثورة رشيد عالى الكيلانى ثورة وطنية، ثم أنعمت بالنياشين على كل الذين شاركوا فيها بقسط - أى قسط.

ثم، بعد شهور أربعة، أربعة فقط يا سيدى - ألقيت القبض على زعيم ثورة رشيد عالى الكيلانى، على رشيد عالى الكيلانى، نفسه، ووجهت إليه تهمه الخيانة، وحكم عليه قريبك المهداوى بالنفى خمس سنوات خارج العراق، ولكنك - يا سيدى - طلبت إعادة المحاكمة حتى يصدر حكم المهداوى بالإعدام.

وكانت المحاكمة الأولى سراً، وكذلك كانت المحاكمة الثانية.

وذلك شئ غريب، ولكنه مع ذلك شأنك أنت لا يتدخل فيه غيرك ولا يقحم نفسه عليه!

وحتى الحكم بالنفى، وحتى الحكم بالإعدام على رشيد عالى شأنك وحدك لا تدخل فيه ولا إقحام، فلقد يتغير البشر يا سيدى - ولقد يجوز - يجوز - أن يتحول بطل الأمس إلى خائن اليوم أو الغد. ولكن دعنا نسألك عن ثورة رشيد عالى الكيلانى نفسها، بصرف النظر عن زعيمها وعن مصيره. كانت ثورة وطنية منذ أربعة شهور في رأيك وتقديرك، وبهذا أصدرت قانونك الشهير.. ولكن في جلسة أخيرة لمحكمتك يرأسها المهداوى قاضيك وقريبك يا سيدى.

قال المهداوى بالحرف الواحد:

"لقد تبين أنّ ما يسمّى بثورة رشيد عالى الكيلانى كان خيانة كبرى لمصلحة الاستعماريين والصهاينة". ما هذا يا سيادة الزعيم الأوحد؟

الاستعماريون والصهاينة مرة واحدة؟

إنّ أسانا يا سيادة الزعيم الأوحد - ليس لرشيد عالى الكيلانى.

وإنما أسانا يا سيادة الزعيم الأوحد لتاريخ العراق نفسه.

ومن حقك يا سيدى أن تشنق رشيد عالى الكيلانى إذا اقتضت إرادتك!

وليس من حقك يا سيدى أن تشنق تاريخ العراق!

ودعنا نسألك - يا سيدى - لماذا علقت جثة عبد الإله - ولى عهد العراق السابق - بعد قتله على مبنى وزارة الدفاع؟

هل نسيت يا سيدى؟

لقد علقت جثته في نفس المكان الذى علق فيه هو جثة صلاح الصباغ القائد العسكرى لثورة رشيد عالى الكيلانى.

لقد ثأر جيشك يا سيدى صباح يوم الثورة لنفسه، ثأر لشهيد من أبر جنود العراق.

فإذا جاء قاضيك اليوم يا سيدى - أجل قاضيك - وأطلق حكمه - لا على رشيد عالى فقط - وإنما على ثورة رشيد عالى بأنها كانت لمصلحة الاستعماريين والصهاينة، فإلى أين - يا سيدى - ينتهى بنا حكم قاضيك وحيثياته؟!

إلى أين؟

إذا كانت ثورة 1941 لمصلحة الاستعماريين والصهاينة، إذن فلقد كان عبد الإله - على هذا القياس يا سيدى - على حق في أمره بإعدام صلاح الصباغ، وعلى حق في تعليق جثته على مبنى وزارة الدفاع. أليس عميلاً للاستعماريين والصهاينة في حكم قاضيك وحيثياته؟

ويتفرع من ذلك يا سيدى سؤال:

"لماذا إذن قتل عبد الإله وعلقت جثته على مبنى وزارة الدفاع في نفس المكان الذى علقت فيه جثة صلاح الصباغ بعد شنقه؟ ".

عجب، يا سيدى الزعيم الأوحد، عجب.

وكل هذا لأن السفير البريطانى قال لصحفى قبلك ثم قال لك.

وكل هذا لأن المخابرات البريطانية تحرت لك والمخابرات الأمريكية دققت وبحثت، وكشفت لك الخبر وأزاحت الغطاء عن المستور.

عجب، يا سيدى، عجب.

بل أسى - يا سيدى - أسى.

ولقد تملك أرواح الناس يا سيدى، وتملك أن تحكم عليهم بالشنق. ولكنك يا سيدى - لا تملك التاريخ، ولكنك يا سيدى لا تملك أن تحكم على هذا التاريخ بالشنق. والشيطان الثانى - يا سيادة الزعيم الأوحد - الشيطان الثانى الحزب الشيوعى في سوريا، وهو نفسه الآن الحزب الشيوعى في العراق، ألم تسأل نفسك يا سيادة الزعيم - عن الدوافع التى حدت بالحزب الشيوعى أن يفتعل ولقد افتعل افتعالاً - هذه المشادة الصاخبة حول المقارنة بين الوحدة والاتحـاد؟! ألم تسأل نفسك يا سيدى... لماذا؟

من الذى كان يطلب وحدة أو يطلب اتحاداً؟

أو بمعنى أدق من الذى كان يريد أن يفرض وحدة أو يفرض اتحاداً؟

لقد قيل لك منذ البداية أنّ أحداً لا يريد وحدة لا تطلب بالإجماع. كما أنّ الاتحاد نفسه لا يتم بالقسر ولا بالضعف.

واسأل يا سيدى - ودع الذين يقارنون بين الوحدة والاتحاد، افتعالاً لهذه المشادة الصاخبة يسألون - اسألوا جميعاً يا سيدى كامل الجادرجى، وهو زعيم حزب كبير في العراق. إنّ كامل الجادرجى سمع بنفسه في القاهرة أنه لكى تتم وحدة أو يتم اتحاد بين الجمهورية العربية المتحدة وبين العراق يجب أن يتوفر ما هو أكثر من مجرد الإجماع على الطلب، من الناحيتين، وأكثر من مجرد الالتقاء على الهدف من الناحيتين، فإنه ينبغى أيضاً في تقديرنا وحسابنا أن يتوفر الاتفاق حتى على أساليب تحقيق الطلب والوصول إلى الهدف.

ولقد جاء كامل الجادرجى إلى القاهرة يا سيدى، وطلب مقابلة الرئيس جمال عبد الناصر، وحاول أن يقنعه بقبول الاتحاد بين الجمهورية العربية المتحدة والعراق على أساس أن يكون هناك رئيس واحد للاتحاد، وأن تكون هناك وحدة كاملة في قيادة القوات المسلحة للاتحاد، وتوجيه واحد للسياسة الخارجية للاتحاد، وفى مقابل ذلك يسمح للأحزاب السياسية أن تباشر نشاطها في داخل هذا الاتحاد وبينها "حزب شيوعى".

فماذا كان الرد الذى سمعه كامل الجادرجى يا سيدى؟

قيل له يا سيدى - شكراً، ليس ذلك طريقنا!

" فإنه ما لم تكن هناك فترة انتقال يتبلور خلالها مجتمعنا الجديد الذى نبنيه، فإن إباحة قيام الأحزاب سوف يكون خطراً عليه، فإنه إذا ما أبيح قيام الأحزاب السياسية في هذه الفترة من تطورنا، فإن النتيجة الحتمية هى أنه سيقوم حزب رجعى يحاول أن يتصل بالاستعمار، ويحاول الاستعمار أن يتصل به، ليعودا معاً إلى حيث كانا - الاستعمار والرجعية - في مكان السلطان من العالم العربى. وسيقوم في مواجهة هذا الحزب، حزب آخر شيوعى، يستورد من الخارج مبادئه، وتعضده المنظمات الشيوعية. وستصبح الوطنية النابعة من أرض العرب نفسها، غريبة على أرضها، لا سند لها من الخارج ولا عضد. ثم ينتهى كل الذى نحاول أن نبنيه الآن إلى أن تصبح بلادنا ميدانا للحرب الباردة! ومع ذلك فأنا لست مستعداً للكلام في عناوين وإنما الذى أنا على استعداد له هو البحث في توثيق العلاقات بين البلدين والمجال هنا واسع فسيح.

أما جدال العناوين، وأما افتعال المعارك بين "الوحدة" و"الاتحاد" فليست له من نتيجة إلا قسمة شعب العراق وليس من مصلحتكم أن تقسموا شعب العراق". ذلك إذن رأينا يا سيدى ولقد قلناه إذا كانت الوحدة أو الاتحاد لمصلحة العرب، فإنّنا أول من يتحمل الأمانة وإنما بشروط.

أن يكون الطلب بالإجماع.

وأن يكون الاتفاق على الأهداف كاملاً.

وأن يكون اللقاء واضحاً حتى في أساليب العمل. وبغير ذلك نعتبر أننا نقبل تضليل الناس، تلاعباً بشعارات يقدسونها، ونتاجر بها فيما لا طائل تحته من مناورات السياسة وألاعيب محترفى الكلام!

لماذا إذن يا سيدى - راح الحزب الشيوعى - يفتعل هذه المشادة الصاخبة بين الوحدة والاتحاد. لم يكن الهدف هو العراق.

وإنما كان الهدف أن يرتفع الصوت في بغداد ليكون الصدى في دمشق.

وسل نفسك يا سيدى - بأمانة وشرف - ما هو القصد من الهتاف الذى راحت مظاهرات الحزب الشيوعى في بغداد تطلقه:

" جمهورية لا إقليم".

ولقد ارتضت مصر يا سيدى - بكل تاريخها - أن تصبح الإقليم الجنوبى للجمهورية العربية المتحدة.

وارتضت سوريا يا سيدى - بكل تاريخها - أن تصبح الإقليم الشمالى للجمهورية العربية المتحدة.

وارتضت مصر وسوريا ذلك في إجماع كامل لتكون للعرب هذه القلعة الكبيرة - الجمهورية العربية - التى لولاها يا سيادة الزعيم لولاها...

ولسوف أقتضب العبارة هنا يا سيادة الزعيم، فإنه ليعز علينا أن نستطرد في هذا الاتجاه مهما كانت المرارة في نفوسنا، مهما كانت المرارة، يا سيادة الزعيم.

ولكن الحزب الشيوعى كان يجرى وراء هدفه.

لقد حاول أن يجد قاعدة له قبل الوحدة في سوريا، ثم فاجأته الحوادث بالوحدة على عجل، قبل أن يحفر خنادقه ويربض.

فلما جاءت ثورة العراق لم يكن الحزب الشيوعى يريد أن يضيع عليه الوقت أو تفاجئه الحـوادث، ثم كان خلافك مع عبد السلام عارف، فاتضحت أمامه - الحزب الشيوعى - مسالك العمل ودروبه. ليجد لنفسه في العراق مركزاً.. وليصنع لنفسه من العراق قاعدة ليعود منها إلى دمشق. الحزب الشيوعى مع الاستعمار:

وإنه لمن عجب - وما أكثر العجب في حكايتك يا سيدى - أنّ الحزب الشيوعى الذى كان يملأ أشداقه دائماً بجهده في مقاومة الاستعمار، يقف الآن في بغداد جنباً لجنب مع الاستعمار، ومع أهداف الاستعمار.

ولقد كانت سعادة الاستعمار بالحزب الشيوعى في بغداد يا سيدى - سعادة فائقة غامرة!

ولقد يبدو ذلك غريباً عليك للوهلة الأولى، ولكنك لو دققت النظر، ونظرت بعينيك أنت - لا بعيون الذين يزيفون لك الصور - لرأيت الحقيقة ظاهرة.

وللوهلة الأولى يا سيدى - يبدو أنه من غير المعقول، أن يقف الاستعمار، وهو الابن البكر للرأسمالية، جنباً إلى جنب مع الشيوعية.

ومع ذلك دعنا نرو لك - يا سيدى- مثالاً عشناه وجربناه، ولعلك لم تنس بعد يا سيدى - أنّ معركة القومية العربية ضد الاستعمار بدأت قبل أن تبدأ وحدانيتك بالزعامة - بزمان طويل. ذات يوم كان دالاس، جون فوستر دالاس، وزير خارجية الولايات المتحدة غارقاً لقمة رأسه في محاولات عزل مصر عن العالم العربى، فهل تعلم ماذا كانت خطته؟

كانت خطته أن تبدو مصر أمام العالم العربى بمظهر الدولة الشيوعية، أو التى تسيطر عليها الشيوعية، بل لقد بذل دالاس كل جهده ليدفع مصر إلى هذا الموضع دفعاً، لتكون فيه فعلاً كما تبدو به مظهراً. لماذا؟

لأن دالاس كان يعرف أن العرب في بحثهم عن مستقبلهم يريدون أملاً ينبثق من قلوبهم، وأنّهم إذا كانوا يثورون ضد الاستعمار فإنهم على غير استعداد لكى يستسلموا بعده إلى مبدأ غريب ودخيل. إذن فلو بدت مصر أمام العالم العربى بمظهر الشيوعية، أو بحقيقة الشيوعية، فإن آمال العرب فيها ستخيب.

سينظرون إليها على أنها سهم طاش، ونجم هوى، وأمل لم يتحقق! ثم يكون رضاهم بما هم فيه.

كان شعار عملاء الاستعمار وقتها - يا سيادة الزعيم - أن العفريت الذى عرفناه خير من العفريت الذى لم نعرفه.

أى أنّ كفاح العرب وقتها كان سينحرف ليصبح مفاضلة بين الشيوعية والاستعمار ولكن النجاح العظيم الذى حققته مصر، هو أنها في نفس الوقت الذى حاربت فيه الاستعمار لم تستبدل بعفريت تعرفه عفريتاً جديداً.

وإنما كان كفاحها ضد كل العفاريت.

هكذا بقيت... سهماً للعرب أصاب هدفه، ونجماً تعلق بالسماء ليضىء، وأملاً يفتح أبواب المستقبل لكفاح عربى خالص، من أجل مجتمع عربى خالص.

خريطة العراق:

هكذا، على هذا النسق والمنوال، يا سيدى، كانت سعادة الاستعمار، بنشاط الحزب الشيوعى في العراق، فائقة غامرة.

كان الاستعمار يريد أن يعزلك يا سيدى - يريد أن يعزل العراق، وكانت تلك دائماً سياسته على أيام نورى السعيد، ومازالت سياسته على أيامك. إنّ آخر ما يريده الاستعمار هو أن يرى تضامناً عربياً يشد كفاح جميع العرب ويربطهم. كذلك آخر ما يريد الاستعمار أن يراه هو لقاء بين بغداد ودمشق والقاهرة. ولقد حاول أن يعزل القاهرة عن دمشق مرة فما استطاع.

ثم حاول أن يعزل القاهرة ودمشق من ناحية عن بغداد من ناحية أخرى، وتمكن من ذلك بعض الوقت بفضل وجود نورى السعيد.

وبينما المفاجأة - بقيام الثورة واختفاء نورى السعيد - تقفل الأبواب في وجهه إذا بالحزب الشيوعى يفتح أمامه الأبواب.

وأمسك الآن خريطة للعراق - يا سيادة الزعيم - وتأملها.

إلى ناحية منك يا سيادة الزعيم - إيران - وهى مازالت قاعدة لحلف بغداد، وما زالت منشآته العسكرية فيها، والحديث في طهران اليوم عن حلف مباشر بين واشنطن وطهران.

وإلى ناحية أخرى منك يا سيادة الزعيم - تركيا - وهى ما زالت قاعدة لحلف بغداد وحلف الأطلنطى، وما زالت منشآتها العسكرية فيها، والحديث في أنقرة اليوم عن حلف مباشر بين واشنطن وأنقرة.. وإلى ناحية أخرى منك يا سيادة الزعيم - الخليج والمحيط الهندى، ومطارات بريطانيا على شواطئه وأسطول المحيط الهندى البريطانى يتجول أمام الشواطئ وطلائع الأسطول الأمريكى السابع تحوم بالقرب منها، وتروح دورياته وتجئ.

وإلى ناحية رابعة منك يا سيادة الزعيم - الأردن - ولا تزال فيه بقية هاشمية تدّعى الملك وهى على استعداد في أى لحظة أن تفتح سماواتها لجنود البارشوت كما فتحتها أول مرة ! هو إذن حصار من كل ناحية - يا سيادة الزعيم.

حصار كامل، ليس فيه إلا باب واحد مفتوح، هو حدودك مع سوريا، مع الجمهورية العربية المتحدة يا سيادة الزعيم.

ويريد الاستعمار - يا سيادة الزعيم أن يقفل عليك هذا الباب أيضاً فماذا يفعل؟ إنه لا يستطيع أن يجعل الجمهورية العربية المتحدة تغلق هذا الباب المفتوح في وجهك؟ وإذن فليحاول - يا سيادة الزعيم الأوحد - أن يجعلك أنت تغلق الباب، لتتم من حولك حلقات الحصار. ومن عجب أن تساهم أنت فيها، ومن عجب أن تشارك في عزل نفسك وفى عزل العراق. ولقد كان الحزب الشيوعى هو الأداة... التى كنت أنت لها - بدورك - يا سيدى الزعيم - أداة. حاول الحزب الشيوعى أن يستعملك.. وحاول الاستعمار أن يستعمل الحزب الشيوعى!

ومن عجب - ولن يفرغ العجب - أنّ الحزب الشيوعى الذى يملأ صحفه بالهجوم على الجمهورية العربية المتحدة لا ينشر في صحفه كلمة واحدة في الهجوم على بريطانيا مثلا!

وكأن نورى السعيد - يا سيدى - لم يكن عميل بريطانيا، وإنما كان عميل الجمهورية العربية المتحدة! ومن عجب - ولن يفرغ العجب - أن الحزب الشيوعى الذى يملأ صحفه باتهام الجمهورية العربية المتحدة، بأنها الصديق الجديد لراونترى، لم يفعل حتى الآن شيئاً - ليجعل - حكومتك يا سيدى - تعلن انسحابها من حلف بغداد!

ومن عجب - ولن يفرغ العجب - أن الحزب الشيوعى الذى يملأ صحفه بالحديث عن مطامع الجمهورية العربية المتحدة في نفط العراق، لم يتذكر حتى الآن أن نفط العراق ما زال امتيازاً لشركة تملك بريطانيا فيها النصف، والنصف الآخر موزع بين أمريكا وفرنسا وورثة مليونير أرمنى اسمه جولبنكيان!! ولم نسكت...:

ولقد رأينا مؤامرة العزل يا سيدى - رأيناها. ورأيناك - يا سيدى - وأنت تحاول أن تقفل الباب المفتوح - لكى تكمل - بيدك يا سيدى - إحكام حلقات الحصار.

فهل وقفنا سكوتاً يا سيدى؟

لما اتضحت معالم المؤامرة وحدودها يا سيدى، دُعى سفيرك في القاهرة، السيد فائق السامرائى إلى مقابلة مع رئيس الجمهورية العربية المتحدة. وفى هذا اللقاء - يا سيدى - شرح الرئيس جمال عبد الناصر الموقف بنفسه، وبتفاصيله، لسفيرك في القاهرة، ثم قال الرئيس يا سيدى:

- إنّ هذه المحاولة لخلق خلاف لا مبرر له بين جمهورية العراق والجمهورية العربية المتحدة إنما هى محاولة مقصودة لعزل العراق.

وأنا لا أستطيع أن أراقب الذى يجرى الآن وأكتفى فيه بالسكوت، ولقد فكرت طويلاً في الذى يمكن أن أعمله، ولم أجد وسيلة إلا أن أحاول بنفسى أن ألتقى بعبد الكريم قاسم وأحدثه بكل ما في قلبى. وأنا أريدك الآن أن تبعث لعبد الكريم قاسم بأنى أريد أن ألقاه.

إذا كان يريدنى أن أذهب إليه في بغداد فإننى مستعد، وإذا كان يريد أن يجىء هو إلى دمشق أو إلى القاهرة، فإنى وشعب الجمهورية العربية المتحدة، سنجدها فرصة رائعة لكى نجعله يلمس بنفسه إعجابنا به واعتزازنا بثورة العراق.

وإذا كان لا يريدنى أن أذهب إليه في بغداد، ولا يريد أن يجىء هو إلى دمشق أو إلى القاهرة، فليكن لقاؤنا في أى مكان يختاره على الحدود العراقية السورية!".

وطارت إليك الرسالة يا سيدى، فماذا كان رأيك؟

فى المساء يا سيدى قلت:

- زين... فكرة معقولة، ولقاء يحقق مصلحة العرب.

وفى الليل جاءوك يا سيدى وتملكوا آذانك، وبدأ همسهم يتسرب إلى أعصابك ويلمسها براجفات الهواجس والشكوك.

" لو جاءك جمال عبد الناصر في بغداد فهل تتصور كيف يستقبله الشعب في العراق؟

ولو رحت أنت إلى القاهرة أو إلى دمشق، فمعنى ذلك أنك الذى سعيت إليه في عواصمه؟

فإذا التقيتما على الحدود، وصدر عن اجتماعكما بيان وقعتما عليه، فلسوف يقال إنك وقعت على البيان الذى أرادك أن توقع عليه، ولن تجد من يقول أنه هو وقع على البيان الذى أردته أن يوقع عليه.

وأنت هنا - كذلك همسوا لك - الزعيم الأوحد. والزعيم الأول فلماذا تريده أن يجىء هنا ليكون لك في الزعامة شريك؟

ولماذا تريد أنت تذهب إلى عواصمه أو إلى الحدود لتكون بعده، الزعيم الثانى!"...

ولقد ترددت يا سيدى ترددت، ولا أقول صدقت يا سيدى صدقت.

وفى الصباح يا سيدى،لم يكن عندك رد على الرسالة التى تسلمتها في المساء، والتى قلت عنها حين تسلمتها:

- زين... فكرة معقولة، ولقاء يحقق مصلحة العرب.

الحيرة:

وبقينا يا سيدى، لا نعرف ماذا نفعل، ولا نعرف ماذا تفعل؟

ولم نكن وحدنا في هذه الحيرة - يا سيدى - لم نكن وحدنا.

كان بين ضباطك يا سيدى، وبين وزرائك يا سيدى، من يتملكه مثل ما يتملكنا من الحيرة!

وذهب إليك منذ شهر أو يزيد جماعة من ضباط جيش العراق، وقالوا لك يا سيدى:

- إن الهدف غير واضح، وإن ثورة العراق تتعثر على مفترق الطريق!

وأصغيت يا سيدى باهتمام.

واستطردوا معك قائلين:

- إن عناصر وطنية في الجيش، وبين الغالبية العظمى من الشعب لا تفهم ماذا يجرى، ولا يفيد أحد من هذه البلبلة غير أعداء العراق.

وكنت لا تزال يا سيدى تصغى بنفس الاهتمام واستطردوا:

- بل إن بعض الوزراء في وزارتك نفسها بح صوتهم من كثرة ما تكلموا دون أن أن يكون للذى يقولونه صدى، ووصل بعضهم إلى حد أنه لم يعد يشعر أنه يستحق المرتب الذى يتقاضاه من الدولة لقاء قيامه بمنصبه!

ثم سألوك يا سيدى:

هل قرأت أن صديق شنشل وزير الإرشاد القومى مثلاً تبرع بمرتبه عن شهر لجمعية الإسعاف، وعن شهر آخر، وشهر ثالث ورابع، لغرض آخر، وثالث ورابع، من أغراض الخير، وأن الناس فهموا من هذا التبرع المستمر أن صديق شنشل لا يستحل لنفسه أن يتقاضى مرتبه!

وهززت رأسك يا سيدى - هزة من فهم.

وأبديت - يا سيدى - اقتناع من عقد العزم على أن يضع اقتناعه موضوع التنفيذ! وأنت تذكر ماذا فعلت يا سيدى!

تذكر قطعاً.. فلقد كان ياورك هو الذى حكى التفاصيل في معرض الدفاع عنك والتبرير لموقفك. ركبت سيارتك ورحت بنفسك تفتش عن صديق شنشل، ثم عثرت عليه أخيراً وأخذته معك في سيارتك عبر شوارع بغداد كلها إلى وزارة الدفاع.

وكلمك صديق شنشل بصراحة يا سيدى - لم يخف عليك من الأمر شيئاً، وكنت يا سيدى توافقه على ما يقول. سألك يا سيدى هل في صالح العراق أن يتخبط بين همسات سفارات الاستعمار، وصرخات مظاهرات الحزب الشيوعى؟ وقلت - يا سيدى - قلت:

- حاشا!

وسألك يا سيدى هل في صالح العراق أن يكون هناك خلاف لا سبب له - بين جمهورية العراق وبين الجمهورية العربية المتحدة؟

وقلت - يا سيدى - قلت:

- وهل كانت تقوم في العراق ثورة وتنجح، لو لم تكن الجمهورية العربية المتحدة قوة لها وسـنداً! وسألك - يا سيدى - هل في صالح العراق أن تكون هذه الدسائس بينك وبين جمال عبد الناصر؟ وقلت - يا سيدى - قلت:

- وهل ننسى كل الذى فعله جمال عبد الناصر لتأييدنا وتأييد الثورة في العراق؟ وسألك صديق شنشل:

- إذن ماذا؟

وقلت له - يا سيدى - قلت له:

- إن الخطاب الذى سألقيه في يوم الجيش لابد أن يوضح سياستنا، وأنا أريدك أن تكتب بنفسك هذا الخطاب، وسوف ألقيه كما هو! وكتب صديق شنشل لك مشروع خطاب وفى يوم الجيش لم تلق الخطاب. وفى اليوم التالى، فجأة، ألقيته كما هو بما فيه عن القومية العربية والحياد الإيجابى. والغريب أنه لما وصلتك يا سيدى الزعيم - في اليوم التالى برقيات التأييد من جماعات الشعب وطوائفه،لم يظهر لمعظم هذه البرقيات أثر في الصحف.

ثم بعد يومين... خرجت ثمان من هذه الصحف في بغداد - والإذاعة تنقل عنها ما تكتبه - لتهاجم القومية العربية وتشوه معناها وتهاجم الحياد الإيجابى وتنحرف بمفاهيمه.

نماذج وأمثلة:

ودواعى الحيرة في ذلك كثيرة، وأسبابها متعددة. وخذ قصة قوات المقاومة الشعبية - خذها واحداً من الأمثلة يا سيدى. جيش للمقاومة الشعبية يبدأ تكوينه، بعد أن زال خطر الغزو، أو كاد. ثم يحاول الحزب الشيوعى السيطرة عليه ويقنعونك بأنه قد يكون عمادك إذا تعذر عليك يوماً أن تعتمد على الجيش.

ثم يصبح عمل جيش المقاومة الشعبية هو تنظيم المظاهرات وتفتيش المنازل، وضرب المتفرجين في دور السينما عندما صفق بعضهم للجمهورية العربية المتحدة، ثم تنظيم الغارات على الأحياء التى لا ترضخ لإرهابهم، وما حدث في الكرخ معلوم لديك وللناس.

ثم تجيئك جماعة من الضباط يشرحون لك الوضع الحرج.

" إن جيش المقاومة الشعبية قد أصبح جيشاً في مواجهة الجيش ".

وتصدر أمراً بإلحاق جيش المقاومة تحت قيادة الجيش النظامى للعراق. وفى اليوم التالى، لا يحدث شىء، إلا أن أفراداً من قوات المقاومة الشعبية خلعوا ملابسهم الرسمية، ثم راحوا بملابسهم المدنية، يعتقلون بعض المارة، ويحولون إحدى المدارس في بغداد إلى سجن خاص، لحسابهم وعلى هواهم.

وخذ قصة علماء الدين - خذها مثلاً ثانياً يا سيدى.

ذهب إليك جمع من هؤلاء العلماء يشكون لك الذى يجرى من افتراء أفراد المنظمات الشيوعية على الدين، ومحاولتهم للتهجم على بيوت الله في النجف الأشرف.

وأصدرت يا سيدى بياناً رسمياً أذيع من محطة بغداد قلت فيه:

- إننى خادم العتبات الشريفة في النجف، والعبد المخلص لدين الله الحنيف.

وفى اليوم التالى كان المدعى العام في محكمتك يا سيدى - يشنّ على الدين وعلماء الدين، أعنف حملة وجهت ضدهم... والدين أفيون الشعوب كما قال، وعلماؤه تجار الأفيون ومهربوه!

وخذ قصة محكمتك - يا سيدى - تلك التى يرأسها قاضيك وقريبك فاضل المهداوى.

عبد السلام عارف يتهم بخيانة الوطن بعد ثلاثة شهور من اشتراكه في الثورة معك، ويقال أنه سيحاكم في جلسة علنية تذاع فيها الوثائق وتنشر الأسانيد، ثم لا تحدث محاكمة علنية، ويقال أن المحاكمة تمت سراً، ويقال أن الحكم بالإعدام صدر، ثم تتوه الحقيقة في طوفان من الغموض. رشيد عالى الكيلانى يتهم أيضاً بخيانة الوطن بعد شهرين من عودته إلى بغداد، بعد سبعة عشر عاماً من المنفى بعيداً عنها لكى لا ينفذ فيه نورى السعيد حكم الإعدام الصادر عليه، ويلقى رشيد عالى في سجن لم يتمكن نورى السعيد من أن يرميه فيه، ويقال أيضاً أنه سيحاكم في جلسة علنية تذاع فيها الوثائق وتنشر الأسانيد، ثم لا تحدث محاكمة علنية، ويقال أن المحاكمة تمت سراً، ويقال أن الحكم بالإعدام صدر، ثم تتوه الحقيقة مرة أخرى في طوفان من الغموض.

وقاضى محكمة يقول في عبد السلام عارف، نفس ما يقوله في فاضل الجمالى، ويتهم رشيد عالى الكيلانى، بمثل الذى يتهم به مختار بابان.

ومحكمة تلقى فيها بعد إفساح الجلسة إحدى وأربعون قصيدة من الشعر. ثم يذاع هذا الهراء المجنون المختلط كله على الناس!

اضغط على الجرس:

ولقد طال الحديث يا سيادة الزعيم الأوحد وامتدت الحيرة. وما أظنك أقل حيرة منا، أنت نفسك، يا سيادة الزعيم. وليتك - يا سيادة الزعيم - وأنت تصل معنا إلى هذا الحد من الحديث، تتوقف قليلاً لتفكر، ثم تضغط على جرس أمامك تستدعى أحد معاونيك وتطلب:

1 - آخر تعليقات الإذاعات الإسرائيلية على أحداث العالم العربى.

2 - نماذج من الإذاعات السرية الموجهة ضد العالم العربى، وبينها الإذاعة التى يوجهها الاستعمار تحت اسم مصر الحرة.

3 - نماذج مما تنشره صحف الاستعمار والصهيونية، في لندن ونيويورك وباريس وغيرها. ولسوف تجد - يا سيدى - شيئاً غريباً.

لسوف تجد - يا سيدى - أنّ هذه الأصوات كلها هى مصدر لأصداء تسمعها في بغداد. إنّ صحفاً تصدر عندك يا سيدى، تسير في نفس الخطوط، وتردد نفس الاتجاهات، التى تسير فيها وترددها، إذاعات إسرائيل، والإذاعات السرية وصحف الاستعمار والصهيونية. ونحن نؤمن بعدها يا سيدى - أنك ستفزع من هول ما سوف تراه. إنك لحظتها يا سيدى سوف ترى الشيطان على حقيقته، وسوف ترى دوره. وسوف تعثر على بصمات أصابعه.

ولحظتها سوف تتدارك يا سيدى أن الشيطان الذى استعنت به هو الذى يحاول الآن أن يستعين بك! لقد استعملته ضد خصمك.

وهو يحاول الآن أن يستعملك ضد خصمه!

يحاول أن يستعملك يا سيدى ليعزل العراق.

يحاول أن يستعملك يا سيدى ليكمل حلقات الحصار من حولك.

يحاول أن يستعملك يا سيدى ليبدد قوة القومية العربية ويشتت اندفاعها.

يحاول أن يستعملك يا سيدى ليمنع التضامن العربى.

ويا سيدى - كن الزعيم "الأوحد" إلى آخر العمر.

ولكن - يا سيدى - كن الزعيم "الأوعى".

ولو لهذه اللحظات الحاسمة من التاريخ.

وسلام عليك - يا سيدى سلام.

ونور لقلبك - يا سيدى - نور.

سلام ونور يا أيها الزعيم الأوحد!


محمد حسنين هيكل

[تحرير] المراجع

  • الاهرام بتاريخ ٢٧/ 1 /١٩٥٩
  • الاهرام بتاريخ ٣١/ 1 /١٩٥٩