عز الدين سليم
من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة
عزالدين سليم، كاتب وسياسي عراقي وعضو مجلس الحكم في العراق خلال عام 2003 ولغاية 17 مايو 2004 عندما تم إغتياله بسيارة ملغومة أثناء توليه رئاسة مجلس الحكم. إسمه الحقيقي عبدالزهراء عثمان محمد، ولد في البصرة سنة 1943، عمل في التدريس والكتابة، ونشط سياسيا في إعلان تنظيم الدعوة الاسلامية الذي استقل عن حزب الدعوة حيث كان الاخير أكثر ارتباطا بإيران، من خلال قادته ذوي الاصول الايرانية، كالهاشمي والآصفي، فيما احتفظ تنظيم الدعوة الاسلامية بطابعه العربي العراقي. كان تنظيم الدعوة أحد الفصائل التي شاركت في تأسيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في إيران. إضطر لتغيير إسمه خوفا من بطش الحكومة العراقية في ذلك الوقت التي كانت تعتبره تهديدا للدولة. يذكر أن تنظيم القاعدة بزعامة أبي مصعب الزرقاوي قد تبنى عملية اغتياله.
[تحرير] مقالات تناولت عز الدين سليم
عن مجلة النور اللندنية عِزّ الدَّين سليم
الرئيس القادم من بلدة الهوير
بقلم الباحث رشيد الخيُّون
الهوير تصغير الهور، بلدة شاخصة بجداولها ونخيلها بين أهوار القرنة وأهوار الجبايش، أي بحسب تعبير مصطفى جمال الدين «من لبة المعدان». لم يأنف من التسمية رئيس مجلس الحكم عِزّ الدَّين سليم، ولا الشاعر جمال الدين، ولا القاص فهد الأسدي، ولا الفيزياوي عبد الجبار عبد الله، ولا مدير بنك الرافدين ضياء الخيُّون، ولا الشيخ القادم من دست ميسان الحسن البصري، ولا زميله في الأسر مفسر الأحلام محمد بن سيرين، ولا كاتبها الفذ ابن بحر الجاحظ، ولا شيخه أبو الهذيل العلاف وهما من زنوجها على الأرجح. كل هؤلاء لم يأنفوا من تسمية المعدان، تلك التسمية التي حيرت اللغويين وأتعبت الآثاريين، بحثاً عن أصلها.
لكن ما لا يختلف عليه أنهم قوم لا يزالون ومنذ الدهور الخوالي يقطنون الجنوب وأهواره، فيهم ملامح من السومريين، ويُعاب عليهم أنهم مغرمون بأكل السمك اليابس المسموط بالماء المغلي، وهو عند أهله ألذ طعام في الدنيا، ذلك ما سماه الجاحظ بالسمك المشنوق، أي المجفف على الحبال تحت شمس البصرة التي أعدها الله لانضاج التمور وتمليح وجوه بناتها.
لقد أعيا أهل الأهوار، والهوير طرف منها، غبن تاريخي، رغم أنهم علموا العرب أكل التمن (الأرز لغير العراقيين)، جاء هذا من شهادة ياقوت الحموي، الرومي الأصل وليس العراقي الجنوبي حتى يُطعن بشهادته. فبعد استحسان العرب تمر البصرة، وهو جوهر من جواهر، خافوا تمنها المخزون في العنابر، فظنوه سماً تركه لهم البصريون بعد إنكسارهم، وبعد تجريبه في الحصان الذي ازداد نشاطاً فضلوه على حيسهم - طعام مركب من تمر وسمن وسويق - وثريدهم.
البصرة بوابة البحر
اسم البصرة القديم تردم، وهو اسم آرامي يعني بوابة البحر، ثم قُلبت الحروف فأصبحت تدمر. وتدمر، بعيداً عن تكهنات اللغويين واشتقاقاتهم الخاطئة، مفردة عبرية تعني كثرة التمر (معجم الكتاب المقدس 1894)، ولكثرة تمرها أطلق الاسكندر المقدوني على تدمر الشام اسم بالميرا، أي مدينة النخل. لقد أصبح واضحاً الآن لماذا سميت البصرة بتدمر؟ علاقة بالتمر لا بالتدمير، الذي لم يبق منها غير شبح مدينة. كان آخر قتلاها من قبل فاتح جديد، قيل انتحاري سوري، هو ابنها رئيس مجلس الحكم، وهو أول منصب مرتفع يصله أحد أبنائها. أما اسم البصرة الآرامي الآخر، الذي ظلت عليه فهو «بصرياثا»، ورغم ذلك هناك مَنْ يعتقد أن لا وجود للبصرة قبل دخول العرب بقيادة عتبة بن غزوان، فأخفوا اسمها الآرامي لينحتوا اسمها على طريقتهم من حجارتها الغليظة البيضاء. كانت الهوير وهي ناحية من نواحي البصرة مصنعاً للقوارب (المشاحيف)، تجد انتشار الورشات على جانبي نهيراتها. أخذ أهلها هذه الحرفة عن الصابئة المندائيين، يوم كانت البصرة إحدى حواضر هذه الديانة الضاربة في القِدم. كان مقام الهوير بين أهل الماء مقام مدن صناعة السيارات والقطارات لأهل البر، لذلك أول صناعة وتجارة تأثرت سلباً بتجفيف الأهوار هي صناعة وتجارة أهل البلدة.
قلنا هوير عِزّ الدَّين ناحية من نواحي البصرة، فإذا كانت البصرة لا تحلم في أن يتوزر لها وزير فالعجب العجاب أن يتولى ابن الهوير رئاسة مجلس الحكم العراقي. ومَنْ يدري فربما أسفرت جهود الإبراهيمي والأحزاب العراقية والأميركان أن يكون عبد الزهرة رئيساً؟ لذلك عدَّ قتله حلالاً. بعد مانع انحدار عِزّ الدَّين البلداني لتولي رئاسة العراق يبرز بقوة مانع الاسم فهو، بعد تجريده من الاسم الحركي، عبد الزهرة عثمان، والأول منبوذ عند متشددي السنَّة والثاني منبوذ عند متشددي الشيعة، وربما سمي والده عثماناً على شاكلة تسميات الأضداد. بعد هذا لم يبق لعبد الزهرة إلا التمويه بعِزّ الدَّين سليم للمقاربة بين الطائفتين حتى ظنه بعض «المحللين السياسيين الفضائيين العجائبيين» قطباً من أقطاب الأنبار السنَّية.
لم يحظ عِزّ الدَّين أو عبد الزهرة - نسبة لفاطمة الزهراء بنت النبي محمد لا كوكب الزهرة كي لا يعد من عبدة الكواكب والأجرام- بتشييع مثل تشييع موظف قناة الجزيرة، القناة التي تحصد تغنيها بالإرهاب ونفخها في صورة مقتدى الصدر لحد التضخم، وبثها لعمليات إرهابية وهمية غرضها التدريب على القتل والتفجير والتمرين على الموت انتحاراً. أقول لم يحظ موت عِزّ الدَّين وهو بمثابة رئيس البلاد بمنزلة موت حفيد صدام ونجليه عدي وقصي، ولم يعادله الإعلام الفضائي حتى بحدث لجوء رغد إلى الأردن.
مشهد حزين أن يعامل قتل رئيس مجلس الحكم العراقي من قبل الجامعة العربية وأمينها العام عمرو موسى بهذا البرود، ولذر الرماد في العيون صرح موسى أنه لا يقبل بهذا الفعل، فهو يعلم بتشجيعه لحارث سليمان الضاري عند استقباله في القاهره وبثنائه على المقاومة، التي تمكنت من تفجير عِزّ الدَّين بعد اكتشاف اسمه الحقيقي عبد الزهرة، والتعرف على انحداره غير المشرف لآل ضاري أو الزوبعيين. فتفريخ المتفجرات لا زال يركن في حي من أحياء الفلوجة، وإلا ما سر توقف التفجيرات واختفاء شراة الجنة من الانتحاريين عند حصار الفلوجة، أو الفلاليج حسب تسمية الطبري والبلدانيين لها.
أول مرة في تاريخ العراق يظهر رئيس البلاد متواضعاً تواضع التراب في الحياة والممات. لقد ضاق صدري عبرة وساحت دمعتي من عيني وأنا أرى ابن أخيه، الذي لم يبلغ الخامسة عشرة، يبحث عن محل لتكبير صورة لعمّه من أجل إقامة مأتم عائلي. إنها خيبة من خيباتنا أن نقتل ببرود، ونعتاد على مشهد الموت يومياً دون أن تهتز لمصدري الإرهاب والداعين إليه قصبة.
عِزّ الدَّين أو عبد الزهرة واحد من بقايا أمير الكوفة عمار بن ياسر، ففقر الأخير لم يسمح له، حتى بعد تسنم منصب الإمارة، أن يتخذ خادماً وداية لأولاده، ولم يترك مالاً وجاهاً غير متطلب يومه، لذا أزاله الخليفة بعد أن أكثر مهاجرو قريش إلى الكوفة من شكايته إلى الخليفة، فلم يطمئنوا لأمير يحمل عليقته في السوق، ولم يطمئنوا لأمير لم يغلق باب داره بوجوههم بحاجب وثلة حرس. ما هي النتيجة سادتي لو قارنتم بين قسوة صدام حسين واهداره لثروة العراق وبين لين وأمانة عِزّ الدَّين؟ لو قارنتم بين شرِّ علي حسن المجيد وتجهمه وبين خير عِزّ الدَّين وانبساط محياه؟ لو قارنتم بين الملايين التي حملها حسين كامل بما في بيت عِزّ الدَّين من فضلة دقيق؟ لو قارنتم سادتي بين ما نام عليه كُتاب من ثروة عراقية وبين أوجاع عِزّ الدَّين وأولاده لوجدتم العجب العجاب، ولعرفتم لماذا أوصل بعضهم الفلوجة العراقية بالفالوجة الفلسطينية، وتراه يهزأ بالبلدتين، لأن مَنْ يسخر قلمه لفضائل خير الله طلفاح، ويتشرف بصداقة برزان لا مبدأ له.
كانت الزعامة عندنا ولا زالت موروثاً مناطقياً وطبقياً، قال لي أحدهم: حاكم العراق يجب أن يكون من أرث الفتوحات؟ ومعلوم مَنْ اسمه عبد الزهرة هو بالضرورة من المفتوحين لا الفاتحين. لقد أخاف بردي وقصب البصرة، والهوير إحدى نواحيها، عتبة بن غزوان، فقال لفرسانه: أتركوها هذه ليست من منازل العرب. فتأمل كيف يكون ابن الهوير، وبلدته ليست من منازل العرب، رئيساً لمجلس الحكم!
العراق في مخيلة دعاة الإرهاب والمحتلين مبني على خصومة سَّنية وشيعية، عربية وكردية، تركمانية وآثورية. أقول العراق ليس كذلك، ولا هو مبني على المجاملات الكاذبة بين هيئة علماء المسلمين وجيش المهدي! هو واحد متنوع أرضه عامرة بالأديان والمذاهب والقوميات. حكى لي الأديب مير بصري أن الحاج عبد الفتاح جعله يصرف النظر عن شراء دار، فقد استأجر داره أكثر من خمسة وعشرين عاماً لا يراه فيها غير مرة كل عام يسلمه فيها بدل الإيجار، وكان كل مرة يقول له: يا أستاذ مير الدار أصبحت دارك، فيكفي تدفع لي بدل الإيجار! فما قيل عن خصومة بين يهود العراق ومسلميه لا صحة له، والتخطيط للفرهود ليس من صنعهم، كما بينا في مقال سابق. كذلك كان العين الشيعي محمد الصدر حاضراً في أزمات الدولة ذات المذهب الرسمي السنَّي. وربما لم يعرف العراقي مذهب جاره ودينه طالما جاوره لسنوات، كان مثل هذا السؤال غير مقبول عند العراقيين. ولما استعد مثقفو عراق العشرينيات لتكريم الأب أنستاس الكرملي قال شاعرهم:
وعشنا وعاشت في الدهور بلادنا
جوامعنا في جنبهنَّ الكنائس
وسوف يعيش الشعب في وحدة له
عمائمنا في جنبهنَّ القلانس
أحدث مثال على التعاهد العراقي وصلت لندن قبل أيام فرقة مقام وغناء بغدادية، تتباين مواليد أعضائها بين الستينيات والسبعينيات، أول سؤالهم كان عن الباحث في المقام حسيقل قوجمان اليهودي وعن قارئ المقام حامد السعدي، فوجدوا صداقة وطيدة بين الباحث اليهودي الماركسي وبين القارئ المسلم المتدين، والفرقة بكاملها تنتمي لكيان اسمه العراق، فهي «أنغام الرافدين». هذه الأمثلة رغم بساطتها عامرة الدلالة، فمثلما تعاهد العراقيون في الثقافة والفن كذلك تعاهدوا في السوق ومحلات السكن والأحزاب.
يا ترى كم هو الخطب عظيم أن يستبدل عبد الزهرة اسمه بعِزّ الدَّين، وقاطن محلة الدورة الكردي الفيلي يلحق اسمه بلقب الدوري خشية من التهجير! إنه الضرب على وتر الطائفة والدين والقومية أن تبارك زوبع السنَّية جيش المهدي الشيعي، وأن يمجد مَنْ اعتبر محمد محمد صادق الصدر عميلاً ولده مقتدى، أنها أكاذيب سيذهب ضحيتها العراق. فمَنْ اختلق الخصومة بين ضريحي الإمامين أبي حنيفة النعمان وموسى الكاظم، وهما متجاوران عبر دجلة، لا يعرف علم هذا ولا يدرك فقه ذاك.
المقالة الثانية نقلا عن صحيفة الصباح الجديد البغدادية
احاديث نادرة لطفولة وفتوة وشباب
البصرة ـ سعدي علي السند
لم يكن ربيعي الثالث عشر قد اكتمل عندما تعرفت على شاب من اهل الهوير اسمه ( عبد الزهرة عثمان محمد ) ، كان ذلك عام 1968 ... وقد وجدته متحدثاً ومحاوراً جيداً ومرحاً وتشدك اليه ثقافته ودماثة اخلاقه وفكاهته الجميلة والفته التي تسر وتريح سامعه ومحدثه وجليسه وكأنه يعرفك منذ سنوات... وعندما عرفتُ بأن صحفاً ومجلات بغدادية ونجفية وكربلائية نشرت له دراسات وكتابات متنوعة جمعت كل قابليتي في سؤال محدد يتلخص مضمونه في ان يكشف لنا ابسط واسهل الطرق التي تمكن المبتدئ من نشر كتاباته ... فأجاب بوداعة وبساطة الريفي الطيب بأن الموضوع الجيد يأخذ طريقه للنشر ولا يحتاج الى اكثر من ذلك ... وظلت هذه الجملة المفيدة راسخة في ذهني حتى حل موعد اللقاء الثاني معه ... ولكن اللقاء كان في هذه المرة على الورق ... فقد شدني موضوع بعنوان ( طبيعة التشريع الاسلامي ) نشرته مجلة الجمعية الخيرية الاسلامية في عام 1969 وكان هذا الموضوع بقلم ( عز الدين سليم / البصرة ) وقد عرفت من اساتذتي بأن هذا الاسم هو الاسم الحركي او المستعار للاستاذ عبد الزهرة عثمان محمد ... وقد تطلب الموقف ان يتخذ هذا الاسم بسبب ملاحقة النظام له ولاسرته ومن هنا بدأت اعرف واتابع كتابات هذا الداعية والمفكر والسياسي والانساني ... وتعبيراً عن الوفاء لشخص وتراث الشهيد ( عز الدين سليم ) ولمناسبة الذكرى الثانية لاستشهاده امضت ( الصباح الجديد ) اكثر من (10) ساعات في مدينة الهوير مسقط رأسه واجرت لقاءات مع عدد من معارفه واصدقائه ومحبيه.
التلميذ المتفوق….والشاب المفكر
كان اول المتحدثين هو السيد عبد الرضا جاسم محمد ( زميل الشهيد ابي ياسين في الدراستين الابتدائية والمتوسطة وهو الان معلم متقاعد) وقد قال : انهينا معاً الدرسة الابتدائية بمدرسة الهوير وانهينا الدراسة المتوسطة في القرنة لعدم وجود متوسطة في قريتنا في ذلك الوقت... وكان شهيدنا العزيز متفوقاً جداً في الدراسة وقد لفت بتفوقه واجتهاده ومثابرته وسعيه انتباه معلميه ومدرسيه وزاملت الشهيد ايضاً بالدراسة بدار المعلمين العالية وكان يتصف بذات التفوق والابداع وكانت قابلياته الثقافية قد ظهرت بصورة جلية عبر مشاركاته في المهرجانات الثقافية والخطابية واسهامه في اعداد النشرة الجدارية التي كانت تصدر في الدار واستطاع بأخلاقه ومواهبه وشخصيته الجذابة وتفوقه ان يكسب عشرات الاصدقاء ، وعندما تخرجنا تم تعيينا معلمين في مدرسة الهوير وقد زاملته فيها لمدة سنة دراسية ، ولا تغيب عن ذهني تلك الصور المحببة والطيبة والجهادية التي كان شهيدنا الغالي يكبر فيها في عيون محبيه من الاسرة التعليمية والتلاميذ فقد كان ( رحمه الله ) يكتب كلمة يوم الخميس ويستغلها لنشر الفكر الاسلامي و الشيء الذي كان يلفت الانتباه عند الشهيد هو الاحترام الخاص الذي يحظى به من التلاميذ والهدوء الذي كان يسود الصف الذي يدخله واصغاء التلاميذ اليه وتعلقهم به وكأنه يسحرهم في ايصال الدرس من دون عناء ، او يرفع صوته ودون ان يضرب احداً وكنا ( نحسده على ذلك ) . وكان تلامذته يحرصون على الذهاب عصراً الى مكتبة ايه الله الحكيم العامة / ليلتقوا به حيث كان الشهيد ملازماً لها وتواصل وجوده فيها وملازمته لها حتى بعد انتقالها الى جامع الهوير وكان الشهيد يهيئ مكان الجلسة اليومية الاعتيادية في الجامع ويرشه بالماء بسبب عدم وجود الكهرباء حيث تقام جلسات ثقافية ومحاضرات بحضور كبير من اهالي القرية وشبابها بشكل خاص ، اضافة الى بيت والده الحاج عثمان محمد الذي قام الشهيد ( ببناء ديوانية ) فيه بالمبلغ الذي تسلمه من فوزه بالجائزة الثانية بمسابقة التأليف العالمية عن سيرة الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السلام واصبحت هذه الديوانية مكاناً لاجتماع شباب القرية مساء كل يوم في جلسات الحوار واحياء الشعائر الدينية وكان اخر لقاء لي بالشهيد العزيز في مصيف شقلاوة عام 1974 عندما كنا في سفرة خلال العطلة الصيفية ويبدو ان الشهيد كان يبحث هناك عن طريق للهروب من العراق بعد فترة من السجن والمطاردة وصدور حكم الاعدام عليه وقد اوصانا بعدم الحديث عن هذا اللقاء حتى لا تكتشف السلطة مكان وجوده .
المعاناة التي لا تعرف المستحيل
ويشاركنا في الحديث السيد علك حسن اسماعيل ( مدرس في ثانوية الهوير المسائية بقوله : كانت علاقتي مع الشهيد ( ابو ياسين ) قد بدأت عندما كنت طالباً في الصف الثاني المتوسط حيث كان ( رحمه الله ) يهتم كثيراً بالشباب وكنت احضر اللقاءات اليومية التي تتم في دار والده الحاج ، وعندما اصبحت طالباً في جامعة البصرة حرصت كذلك على حضور مجالس الشهيد التي كانت تقام فوق سطح دار والده بسبب حرارة الجو وكان هذا المجلس يضم بالاضافة الى المثقفين والطلبة مجموعة من كبار السن وكانت جلسات لا تنسى بطروحاتها ومضامينها وفعلها الثقافي وثقلها الديني وحرارة استقبال الشهيد للحاضرين ومرحه وبشاشته ومحبته لهم . ويتابع السيد علك حديثه قائلاً اذكر انني عندما فتحت عيني على الدنيا وجدت بين بيت اهلي وبيت اهل الشهيد رحمه الله (خص) من القصب وهو سياج تتوسطه فتحة صغيرة كنا ندخل منها الى ذلك البيت الذي كان ينطلق منه فجر كل يوم صوت شهيدنا الغالي وهو يرتل القرآن الكريم بصوت المقرئ المحترف وكان صوتاً شجياً حنوناً وقد توالت الاحداث بعد مجيء البعثيين الى السلطة عام 1968 والتي انعكست علينا بشكل مأساوي حيث بدأوا بمهاجمتنا وكانت ذات المأسي قد انعكست على شهيدنا ( ابو ياسين ) وبدأ المسؤولون يتوعدون الشهيد بالتهديد لنشاطه الواضح ولم تمر فترة على تهديداتهم حتى صدر امر اداري من مديرية تربية البصرة يقضي بنقل الشهيد الى مدرسة ( الخاص ) تعذيباً له لان واسطة النقل غير متوفرة للوصول الى هذه المدرسة او تكاد تكون شحيحة وان الشهيد لا يعرف استخدام الدراجة الهوائية وكثرت هناك المضايقات ضده فتقدم الشهيد بطلب نقل الى مكان اخر وتم نقله الى مدرسة الجمهورية المسائية وهنا انشغل كثيراً بالتنظيم السياسي وتسلم مراكز عليا من القيادة حتى صدور امر القاء القبض عليه عام 1974 من السلطات الامنية حيث زج في مركز امن في البصرة وتم ارساله الى محافظة الديوانية وتحمل الكثير من الممارسات القمعية الى ان خرج بكفالة بعد ثلاثة اشهر حين تكفله احد تجار السماوة وعند اعتقالي انقطعت الاخبار بيني وبين الشهيد واذكر انني عندما كنت في السجن دخل رجل كبير السن من اهل السماوة وكانت تبدو عليه هيئة الرجل الوقور والطيب ومن وجهاء السماوة وعندما سألته عن سبب اعتقاله اجابني بأنه كفل شخصاً اسمه عبد الزهرة عثمان محمد بألف دينار وقد هرب من العراق وعندما وصل خبر هذا الانسان النبيل الى عائلة الشهيد حضر الحاج عثمان والد الشهيد ودفع مبلغ الكفالة وتم الافراج عن الكفيل واعتذر منه الحاج عثمان كثيراً وقد علمت وانا في المعتقل بأن الشهيد قد ابتعد الى بغداد وسكن في فندق بالكاظمية وكان الدكتور اجداوة عبد علي والدكتور رياض من اهالي الكاظمية يقدمان رعاية خاصة له وعلمت ايضاً بخبر مغادرته للعراق سراً الى الكويت وكنت حينذاك في سجن الفضيلية وهنا اقول ان هذا الانسان من خلال معرفتي له وما يحمل من صفات حميدة لا يمكن ان ينسى فقد ترك كل هذه السجايا الطيبة في قلوب الاخرين وغادرنا بعد ان اذن الله سبحانه لتلك الرحلة ان تتوقف ولذلك المجاهد المتعب ان يستريح.
النفس المطمئنة التي ما داهنت ولا هادنت
اما الحاج محمد خضير وهو رجل كبير السن من اهل الهوير فقد اكد لقد عاصرت الفترة التي كان فيها الشهيد شعلة نشاط ثقافي اسلامي في الهوير والمناطق القريبة فقد كان ( ابو ياسين ) رحمه الله بالاضافة الى علاقته بالشباب والتعليم في المدارس واللقاء بالمثقفين انساناً حريصاً على الاهتمام والتواصل مع كبار السن الذين كان يقربهم ويعزهم ويهتم بهم كثيراً بتبصيرهم بأمور الدين وضرورة امتزاجهم بالشباب وعدم السماح بخلق الحواجز بين الجيلين وكنت احضر الى بيت الحاج عثمان والد الشهيدفارى ( ابو ياسين ) معتكفاً على الكتابة وحوله المزيد من الكتب والمصادر وقد عرفت بأنه عاكف على كتابة قصة استشهاد الحسين( ع)ويتابع الحاج محمد خضير قائلاً: وقد التقيت بأبي ياسين عند عودته من منفاه في 2003/5/17 بعد ان كانت حياته سفراً كبيراً للمحن والهموم والالام والامال وكان جرح العراق النازف هاجساً يوُرقه وهماً ينوء به كاهله المرهق حتى لحظات عمره الاخيرة التي سكنت فيها روحاً ما استكانت وهدأت انفاس ما داهنت ولا هادنت رجل الافعال والمواقف الجميلة والتقينا ايضاً بالسيد طالب سهر وادي وهو ابن عم الشهيد وخال ولديه ياسين ورياض وقد قال : في تلك السن المبكرة لم نكن نعي الاشياء على حقيقتها ولكن اذكر وانا في الدراسة الابتدائية في مدرسة الهوير التي كان الشهيد معلماً فيها في بداية السبعينات ان سبورة كانت معلقة في مدخل المدرسة وهي مخصصة لكتابة كلمة الاسبوع وكانت ادارة المدرسة تكتب عليها بيتاً من الشعر وهو ( فتشت عن نبعٍ لاروي مظمئي ... فوجدت حزب البعث اطيب منبعِ ) فيأتي الشهيد ابو ياسين مبكراً الى المدرسة ليمسح بيت الشعر هذا ويكتب بدلاً منه على السبورة ( بسم الله الرحمن الرحيم : ومن يبتغِ غير الاسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الاخرة من الخاسرين ) كما انني وبحكم القرابة والجوار كنت احضر بعض الجلسات فوق سطح الديوانية وكنت لم افهم البعض منها بسبب صغر سني واجد الحاضرين يهتمون كثيراً بالاستماع الى ( ابو ياسين ) عندما يتحدث ويسألونه عن الكثير من الامور وكانت اجاباته بكلمات بسيطة ومفهومة وبدون تعقيدات بلاغية او غيرها وقد هجر الاخرون هذه الديوانية عندما هاجر الحاج عثمان بأولاده الى مدينة البصرة هرباً من مضايقات السلطة ويبدو انه هناك ايضاً لم يستطع حمايتهم فهرب شهيدنا الى الكويت ومنها الى ايران وهاجر عبد الهادي شقيق الشهيد الى لندن وتم اعتقال شقيقه الثاني عبد الامام المدرس في اعدادية المعقل للبنين واعتقال شقيقه الثالث حبيب الطالب في الصف السادس الاعدادي في نفس الاعدادية وتم اعدامهما من قبل السلطة فيما بعد وبقي بيت الحاج عثمان مهجوراً واطلاله تعاتب الدهر الى ان انهار سطح هذه الديوانية في نفس اليوم الذي استشهد فيه شهيدنا الغالي رحمه الله في 2004/5/17 وربما هي مصادفة غريبة واذكر عن الشهيد ايضاً بأنه كان شديد الاهتمام بالنظافة والظهور بالمظهر اللائق مع انه عاش في بيئة ريفية ولكنه كان يثقف من اجل ذلك ويهتم كثيراً بالشباب ، وبعد عودته رحمه الله في 2003/5/17 وجدته انساناً بكل ما للكلمة من معنى ولا انسى صورته عند عودته وهو في الهوير عندما كان يصلي صلاة الليل ، كما انني وجدته ووجده معي الاخرون ذا قلب طاهر كبير وكان كثيراً ما يعلن عن تفاؤله بمستقبل العراق . اذن الله سبحانه للمجاهد المتعب ان يستريح
اما السيد جهاد عبد السادة الشاب الذي لجأ الى ايران مع عائلته بعد الانتفاضة الشعبانية المباركة وهو في سن الصبا والذي تعرف على الشهيد هناك ولم يفارقه حتى يوم استشهاده لقد تشرفتُ بالتعرف على الكثير من المواقف التي كان يتحلى بها الشهيد ويسجلها ومنها قصة الطابق الاسفل او ما يسمى السرداب في المبنى الذي كان يسكنه في طهران فقد كان هذا الطابق مآوى ومضيفاً للعراقيين اللاجئين وكان رحمه الله حريصاً على ان يكون في خدمة كل من يطلب منه العون والمساعدة وكانت سعادته تكمن في زياراته المتكررة للعراقيين يطمئنهم ويتحدث اليهم عن الخلاص الاكيد من نظام صدام وان لا بد من نهاية للظلم والظالمين وان النظام الدكتاتوري المتسلط على رقاب الشعب العراقي بدأت ملامح إنهياره واضحة وكان يطالبهم بالمزيد من الصبر والتحمل لحين العودة الاكيدة. هكذا حمل روحه على راحته
واخيراً وبهذه المناسبة يشاركنا الحديث السيد رياض نجل الشهيد عز الدين سليم والذي يعيش الان في مدينة سدني في استراليا حيث خص ( الصباح الجديد) برسالة بعثها بالانترنيت وقد اكد فيها : انا شخصياً اعتز كثيراً بـ ( الصباح الجديد ) واحترم رئيس تحريرها الاستاذ اسماعيل زاير الذي استطاع مع زملائه في الجريدة ان يحقق نجاحاً طيباً في هذه الصحيفة التي كنت اتابع فيها عبر الانترنيت كتابات والدي الشهيد عز الدين سليم مع بداية صدورها في شهر ايار عام 2004 واقول لمناسبة الذكرى الثانية لأستشهاده انه رحمه الله رفع اللواء مبكراً في عمر لا يتجاوز السادسة عشرة واعتقل وحورب وتشرد وكان يدرك ان كل ذلك كان بعض الثمن للطريق التي اختارها وحين سقط النظام وبعد اكثر من ثلاثين عاما من الغربة وقسوتها عاد عودة المحارب ليلتقط الانفاس ويعود الى الميدان فأستأنف المسير وهو المجاهد الذي لم يعرف التوقف والتلون في اكثر الظروف حراجة فوجد نفسه ملزماً بحكم مبادئه ان يكمل المشوار بما يمليه عليه واجبه وبما يرضي الله سبحانه وتعالى ولم تكن فكرة الشهادة والاستشهاد غائبة او مغيبة عن فكر شهيدنا وهو الذي حمل روحه على راحته ووطن نفسه للموت الذي كان ينتظره فكانت الحياة مجرد استثناء والموت هو القدر الحتمي الرسالي كما كان يقول ذلك مراراً تغمده الله بواسع رحمته.
[تحرير] وصلات خارجية
- عزالدين سليم من موقع قناة الجزيرة.