كليلة ودمنة
من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة
هذه المقالة بحاجة إلى إعادة الكتابة باستخدام التنسيق العام للويكي (استخدام صيغ ويكيميديا، إضافة روابط . . مثال لطريقة التنسيق ). الرجاء إعادة صياغة المقالة بشكل يتماشى مع دليل تنسيق المقالات. بإمكانك إزالة هذه الرسالة بعد عمل التعديلات اللازمة.
قالب:ويكيفاي
هذا الكتاب الذي كتبه الفيلسوف الهندي "بيدبا"، و ترجم إلى معظم لغات العالم و منها اللغة العربية على يد المؤلف "ابن المقفع"، يجد فيه القارئ روايات وقصص على لسان الحيوان تروي بشكل رمزي حياة الإنسان ونقاط ضعفه وغرائزه من جهة، وقوة إرادته وحسن تدبيره من جهة أخرى، إنه من أهم كتب التراث الإنساني التي تصلح للتعايش والاستفادة منها في أي زمان ومكان، والروي باسم الحيوان يمنح الكتاب جاذبية و يستطيل القارئ للمتابعة. قدمها بهنود بن سحوان وبعرف بعلى بن الشاه الفارسى. ذكر فيها السبب الذى من أجله عمل بيدبا الفيلسوف الهندى رأس البراهمة لدبشليم ملك الهند كتابه الذى سماه (كليلة ودمنة) وجعله على السن البهائم والطير صيانة لغرضه فيه من العوام وضنا بما ضمنه عن الطغام، وتنزيها للحكمة، وفنونها ومحاسنها وعيونها إذ هى للفيلسوف مندوحة ولخاطره مفتوحة ولمحبيها تثقيف، ولطالبيها تشريف، وذكر السبب الذى من اجله أنفذ كسرى انوشروان بن قباذ بن فيروز ملك الفرس برزويه رأس أطباء فارس إلى بلاد الهند لأجل كتاب (كليلة ودمنة)، وما كان من تلطف برزويه عند دخوله إلى الهند حتى حضر إليه الرجل الذى استنسخه له سرا من خزانة الملك ليلا مع ما وجد من كتب علماء الهند وقد ذكر الذى مكان من بعثة برزويه إلى مملكة الهندلأجل نقل هذا الكتاب. وذكر فيها ما يلزمه مطالعه من إتقان قراءته والقيام بدراسته والنظر إلى باطن كلامه وأنه إن لم يكن كذلك لم يحصل على الغاية منه، وذكر فيها حضور برزويه وقراءة الكتاب جهرا، وقد ذكر السبب الذى من أجله وضع بزرجمهر بابا مفردا يسمى المتطيب، وذكر فيه شأن برزويه منأول امره وان مولده إلى أن بلغ التأديب وأحب الحكمة واعتبر فى أقسامها، وجعله قبل بالأسد والثوروهو أول الكتاب. قال على بن الشاه الفارسى: كان السبب الذى من أجله وضع بيدبا الفيلسوف لدبشليم ملك الهند كتاب (كليلة ودمنة) أن الاسكندر ذا القرنين الرومى لما فرغ من أمر الملوك الذين كانوا بناحية المغرب سار يريد ملوك المشرق من الفرس وغيرهم فلم يزل يحارب من نازعه، ويواقع من واقعه، ويسالم من وادعه من ملوك الفرس وهم الطبقة الأولى حتى ظهر عليهم وقهر من ناوأه وتغلب على من حاربه، فتفرقوا طرائق وتمزقوا حزائق. فتوجه بالجنود نحو بلاد الصين فبدأ فى طريقه بملك الهند ليدعوه إلى طاعته والدخول فى ملته وولايته، وكان على الهند فى ذلك الزمان ملك ذو سطوة وبأس وقوة ومراس يقال له فور، فلما بلغه إقبال ذى القرنين نحوه تأهب لمحاربته، واستعد لمجاذبته وضم اليه اطرافه وجد فى التألب عليه وجمع له العدة فى أسرع مدة، من الفيلة المعدة للحروب. والسباع المضراة بالوثوب، مع الخيل المسرجة والسيوف القواطع والحراب اللوامع .فلما قرب ذو القرنين من فور الهندى وبلغه ما اعد له من الخيل التى كأنها قطع الليل، مما لم يلقه بمثله أحد من الملوك الذين كانوا فى الأقاليم تخوف ذو القرنين من تقصير يقع به إن عجل المبارزة، وكان ذو القرنين رجلا ذا حيل ومكايد مع حسن تدبير وتجربة. فرأى إعمال الحيلة والتمهل واحتفر خندقا على عسكره وأقام بمكانه لاستنباط الحيلة والتدبير لأمره وكيف ينبغى له ان يقدم على الإيقاع به، فاستدعى المنجمين وأمرهم بالاختيار ليوم موافق تكون له فيه سيادة ملك والنصرة عليه. فاشتغلوا بذلك، وكان ذو القرنين لا يمر بمدينة إلا أخذ الصناع المشهورين من صناعها بالحذق من كل صنف، فانتجت له همته ودلته فطنته أن يتقدم إلى الصناع الذين معه أن يصنعوا خيلا من نحاس مجوفة عليها تماثيل من الرجال على بكر تجرى، إذا دفعت مرت سراعا، وأمر إذا فرغوا منها أن تحشى أجوافها بالنفط والكبريت وتلبس وتقدم أمام الصف فى القلب، ووقت ما يلتقى الجمعان تضرم فيها النيران فإن الفيلة اذا لفت خراطيمها على الفرسان وهى حامية ولت هاربة وأوعز إلى الصناع بالتشمير والانكماش والفراغ منها فجدوا فى ذلك وعجلوا، وقرب أيضا وقت اختيار المنجمين فأعاد ذو القرنين رسله إلى فور بما يدعوه إليه من طاعته والإذعان لدولته فأجاب جواب مصر على مخالفته مقيم على محاربته. فلما رأى ذو القرنين عزيمته سار إليه باهته وقدم فور الفيلة أمامه ودفعت الرجال تلك الخيل وتماثيل الفرسان، فأقبلت الفيلة نحوها ولفت خراطيمها عليها وداستهم تحت أرجلها ومضت مهزومة هاربة لا تلوى على شئ ولا تمر بأحد إلا وطئته وتقطع فور وجمعه وتبعهم اصحاب الإسكندر واثخنوا فيهم الجراح وصاح الإسكندر: "يا ملك الهند ابرز الينا وابق على عدتك وعيالك ولا تحملهم إلى الفناء فانه ليس من المروءة أن يرمى الملك بعدته فى المهالك المتلفة والمواضع المجحفة بل يقيهم بحاله ويدفع عنهم بنفسه، فابرز إلى ودع الجند فاينا قهر صاحبه فهو الأسعد". فلما سمع فور من ذى القرنين ذلك الكلام دعته نفسه إلى ملاقاته طمعا فيه وظن ذلك فرصة فبرز إليه الاسكندر فتجاولا على ظهرى فرسيهما ساعات من النهار ليس يلقى أحدهما من صاحبه فرصة ولم يزالا يتعاركان فلما أعيا الإسكندر أمره ولم يجد فرصة ولا حيلة أوقع ذو القرنين فى عسكره صيحة عظيمة ارتجت لها الارض والعساكر فالتفت فور عندما سمع الزعقة وظنها مكيدة فى عسكره فعالجه ذو القرنين بضربة أمالته عن سرجه واتبعها بأخرى فوقع على الأرض فلما رأى الهنود ما نزل بهم وصار إليه ملكهم حملوا على الاسكندر فقاتلوه قتالا أحبوا معه الموت، فوعدهم من نفسه الإحسان ومنحه الله اكنافهم فاستولى على بلادهم وملك عليهم رجلا من ثقته وأقام بالهند حتى استوثق له ما أراد من أمرهم واتفاق كلمتهم ثم انصرف عن الهند وخلف ذلك الرجل عليهم ومضى متوجها نحو ما قصد له. فلما بعد ذو القرنين عن الهند بجيوشه تغيرت الهنود عما كانوا عليه من طاعة الرجل الذى خلفه عليهم وقالوا ليس يصلح للسياسة ولا ترضى الخاصة ولا العامة أن يملكوا عليهم رجلا ليس منهم ولا من أهل بيوتهم فإنه لا يزال يستذلهم ويستغلهم، واجتمعوا يملكون عليهم رجلا من أولاد ملوكهم فملكوا عليهم ملكا يقال له دبشليم وخلعوا الرجل الذى كان خلفه عليهم الاسكندر فلما استوثق له الأمر واستقر له الملك طغى وبغى وتجبر وتكبر وجعل يغزو ما حوله من الملوك، وكان مع ذلك مؤيدا مظفرا منصورا فهابته الرعية، فلما رأى ماهو عليه من الملك والسطوة عبث بالرعية واستصغر أمرهم وأساء السيرة فيهم وكان لا يرتقى حاله إلا ازداد عتوا فمكث على ذلك برهة من دهره. وكان فى زمانه رجل فيلسوف من البراهمة فاضل حكيم يعرف بفضله ويرجع فى الأمور إلى قوله يقال له بيدبا، فلما رأى الملك وما هو عليه من الظلم للرعية فكر فى وجه الحيلة فى صرفه عما هو عليه ورده إلى العدل والإنصاف، فجمع لذلك تلاميذه وقال: اتعلمون ما أريد أن أشاوركم فيه، اعلموا انى اطلت الفكرة فى دبشليم وما هو عليه من الخروج عن العدل ولزوم الشر ورداءة السيرة وسوء العشرة مع الرعية ونحن ما نروض انفسنا لمثل هذه الأمور إذا ظهرت من الملوك إلا لنردهم إلى فعل الخير ولزوم العدل ومتى اغفلنا ذلك واهملناه لزمنا من وقوع المكروه بنا وبلوغ المحذورات إلينا إذا كنا فى انفس الجهال أجهل منهم ، وفى العيون عندهم أقل منهم وليس الرأى عندى الجلاء عن الوطن ولا يسعنا فى حكمتنا إبقاؤه على ما هو عليه من سوء السيرة وقبح الطريقة ولا يمكننا مجاهدته بغير السنتنا ولو ذهبنا إلى أن نستعين بغيرنا لم تتهيأ لنا معاندته وإن أحس منا مخالفته وانكارنا سوء سيرته لكان فى ذلك بوارنا. وقد تعلمون ان مجاورة السبع والكلب والحية والثور على طيب الوطن ونضارة العيش غدر بالنفس. وأن الفيلسوف لحقيق أن تكون همته مصروفة إلى ما يحصن به نفسه من نوازل المكروه ولواحق المحذور ويدفع المخوف لاستجلاب المحبوب. ولقد كنت اسمع ان فيلسوفا كتب إلى تلميذه يقول: "ان مجاور رجال السوء ومصاحبهم كراكب البحر: إن هو سلم من الغرق لم يسلم من المخاوف فاذا هو أورد نفسه موارد الهلكات ومصادر المخوفات عد من الحمير لا نفس لها، لأن الحيوانات البهيمية قد خصت فى طبائعها بمعرفة ما تكتسب به النفع وتتوقى المكروه، وذلك اننا لم نرها تورد أنفسها موردا فيه هلكتها، وأنها متى أشرفت على مورد مهلك لها مالت بطبائعها التى ركبت فيها شحا بأنفسها وصيانة لها إلى النفور والتباعد عنه، وقد جمعتكم لهذا الأمر لأنكم اسرتى ومكان سرى وموضع معرفتى وبكم اعتضد وعليكم أعتمد فإن الوحيد فى نفسه والمنفرد برأيه حيث كان فهو ضائع ولا ناصر له، على أن العاقل قد يبلغ بحيلته ما لا يبغ بالخيل والجنود. والمثل فى ذلك: أن قبرة اتخذت ادحية وباضت فيها على طريق الفيل، وكان للفيل مشرب يتردد إليه، فمر ذات يوم على عادته ليرد مورده فوطئ عش القبرة وهشم بيضها وقتل فراخها، فلما نظرت ما ساءها علمت أن الذى نالها من الفيل لا من غيره، فطارت فوقعت على رأسه باكية ، ثم قالت: "أيها الملك لم هشمت بيضى وقتلت فراخى وأنا فى جوارك ، أفعلت هذا استصغارا منك لأمرى واحتقارا لشأنى؟" قال: "هو الذى حملنى على ذلك"، فتركته وانصرفت إلى جماعة الطير فشكت إليها مانالها من الفيل، فقلن لها: "وماعسى أن نبلغ منه ونحن طيور؟"، فقالت للعقاعق والغربان: "أحب منكن ان تصرن معى إليه فتفقأن عينيه فإنى أحتال له بعد ذلك بحيلة أخرى". فأجبنها إلى ذلك وذهبن إلى الفيل فلم يزلن ينقرن عينيه حتى ذهبن بهما وبقى لا يهتدى إلى طريق مطعمه ومشربه إلا ما يلقمه من موضعه، فلما علمت ذلك منه جاءت الى غدير فيه ضفادع كثيرة فشكت إليها ما نالها من الفيل، قالت الضفادع: "ما حيلتنا نحن فى عظم الفيل، وأين نبلغ منه؟" قالت: "أحب منكن ان تصرن معى إلى وهدة قريبة منه فتنققن فيها وتضججن فانه إذا سمع اصواتكن لم يشك فى الماء فيهوى فيها، فاجبنها إلى ذلك واجتمعن فى الهاوية فسمع الفيل نقيق الضفادع وقد جهده العطش فاقبل حتى وقع فى الوهدة فانحطم فيها. وجاءت القبرة ترفرف على رأسه وقال: "أيها الطاغى المغتر بقوته المحتقر لأمرى كيف رأيت عظم حيلتى مع صغر جثتى عند عظم جثتك وصغر همتك؟ ". فليشر كل واحد منكم بما يسنح له من الرأى، قالوا بأجمعهم: أيها الفيلسوف الفاضل والحكيم العادل انت المقدم فينا والفاضل علينا وما عسى أن يكون مبلغ رأينا عند رأيك وفهمنا عند فهمك، غير أننا نعلم ان السباحة فى الماء مع التمساح تغرير والذنب فيه لمن دخل عليه فى موضعه، والذى يستخرج السم من ناب الحية فيبتلعه ليجربه على نفسه فليس الذنب للحية، ومن دخل على الأسد فى غابته لم يأمن وثبته، وهذا الملك لم تفزعه النوائب ولم تأدبه التجارب. ولسنا نأمن عليك ولا على أنفسنا سطوته وأنا نخاف عليك من سورته ومبادرته بسوء إذا لقيته بغير ما يجب ". فقال الحكيم بيدبا: "لعمرى فقد قلتم فاحسنتم، ولكن ذا الرأى الحازم لا يدع أن يشاور من هو دونه أو فوقه فى المنزلة، والرأى الفرد لا يكتفى به فى الخاصة ولا ينتفع به فى العامة، وقد صحت عزيمتى على لقاء دبشليم ، وقد سمعت مقالتكم وتبين لى نصيحتكم والإشفاق على وعليكم غير أنى قد رأيت رأيا وعزمت عزما وستعرفون حديثى عند الملك ومجاوبتى أياه، فإذا اتصل بكم خروجى من عنده فاجتمعوا إلى، وصرفهم وهم يدعون له بالسلامة". ثم إن بيدبا اختار يوما للدخول على الملك، حتى إذا كان ذلك الوقت ألقى عليه مسوحه وقصد باب الملك، وسأل عن صاحب أذنه فأرشد إليه وسلم عليه وأعلمه وقال له: إنى رجل قصدت الملك، فى نصيحة، فدخل الأذن على الملك فى وقته وقال: بالباب رجل من البراهمة يقال له بيدبا، ذكر ان معه للملك نصيحة، فأذن له فدخل ووقف بين يديه وكفر وسجد واستوى قائما وسكت وفكر دبشليم فى سكوته وقال: "إن هذا لم يقصدنا إلا لأمرين: إما أن يلتمس منا شيئا يصلح به حاله، أو لأمر لحقه فلم يكن له به طاقة ". ثم قال: "إن كان للملوك فضل فى مملكتها فان للحكماء فضلا فى حكمتها أعظم، لأن الحكماء أغنياء عن الملوك بالعلم وليس الملوك بأغنياء عن الحكماء بالمال. وقد وجدت العلم والحياء إلفين متآلفين لا يفترقان متى فقد أحدهما لم يوجد الآخر، كالمتصافين إن عدم منهما أحد لم يطب لصاحبه نفسا بالبقاء بعده تأسفا عليه، ومن لم يستح من العلماء ويكرمهم ويعرف فضلهم على غيرهم ويصنهم عن المواقف الواهنة وينزههم عن المواطن الرذلة كان ممن حرم عقله وخسر دنياه وظلم الحكماء حقوقهم وعد من الجهال". ثم رفع رأسه إلى بيدبا وقال له: "نظرت إليك يا بيدبا ساكتا لا تعرض حاجتك ولا تذكر بغيتك فقلت أن الذى أسكته هيبة ساورته أو حيرة أدركته، وتأملت عند ذلك فى طول وقوفك وقلت: لم يكن لبيدبا أن يطرقنا على غير عادة إلا لأمر حركة إلى ذلك، فإنه من افضل أهل زمانه فهل نسأله عن سبب دخوله فإن يكن فى ضيم ناله كنت أولى من أخذ بيده وسارع فى تشريفه وتقدم فى البلوغ إلى مراده، وإعزازه وإن كانت بغيته عرضا من أعراض الدنيا أمرت بإرضائه من ذلك فيما أحب، وإن يكن من أمر الملك ومما ينبغى للملوك أن يبذلوه من أنفسهم ولا ينقادوا إليه نظرت فى قدر عقوبته، على أن مثله لم يكن ليجترئ على إدخال نفسه فى مسألة باب الملوك وإن كان شيئا من امور الرعية يقصد فيه أن أصرف عنايتى إليهم نظرت ما هو، فإن الحكماء لا يشيرون إلا بالخير ، والجهال يشيرون بضده، وأنا قد فسحت لك فى الكلام. فلما سمع بيدبا ذلك من الملك افرخ عنه روعه وسرى ما كان وقع فى نفسه من خوفه وكفر وسجد ثم قام بين يديه وقال: "أول ما أقول أنى أسأل الله تعالى بقاء الملك على الأبد ودوم ملكه على الأمد، لأن الملك قد منحنى فى مقامى هذا محلا جعله شرفا لى على جميع من بعدى من العلماء، وذكرا باقيا على الدهر عند الحكماء، ثم أقبل على الملك بوجهه مستبشرا به فرحا بما بدأ له منه وقال: "قد عطف على الملك بكرمه وإحسانه، والأمر الذى دعانى إلى الدخول على الملك وحملنى على المخاطرة لى كلامه والإقدام على نصيحة اختصصته بها دون غيره، وسيعلم من يتصل به ذلك أنى لم اقصر عن غاية فيما يجب للمولى على الحكماء، فإن فسح فى كلامى ووعاه عنى فهو حقيق بذلك، وإن هو القاه فقد بلغت ما يلزمنى وخرجت من لوم يلحقنى".
قال الملك: "يا بيدبا تكلم مهما شئت، فأنا مصغ إليك ومقبل عليك وسامع منك حتى استفرغ ما عندك إلى آخره واجاريك على ذلك بما أنت أهله".
قال بيدبا: "إنى وجدت الأمور التى اختص بها الإنسان من بين سائر الحيوان أربعة أشياء هى جماع ما فى العالم وهى: الحكمة والعقل والعفة والعدل، والعلم والأدب، والوية داخلة فى باب الحكمة، والحلم والصبر والوقار داخلة فى باب العقل، والحياء والكرم والصيانة والأنفة داخلة فى باب العفة، والصدق والاحسان والمراقبة وحسن الخلق داخلة فى باب العدل، وهذه هى المحاسن وأضدادها هى المساوىء، فمتى كملت هذه فى واحد لم يخرجه النقص فى نعمته إلى سوء الحظ من دنياه ولا إلى نقص من عقباه ولم يتأسف على ما لم يعن التوفيق ببقائه، ولم يحزنه ما تجرى به المقادير بين ملكه، ولم يدهش عنده مكروه، فالحكمة كنز لا يفنى على الإنفاق، وذخيرة لا يضرب لها بالإملاق، وحلة لا تخلق جدتها ولذة لا تصرم مدتها، ولئن كنت عند مقامى بين يدى الملك أمسكت عن ابتدائه بالكلام، فان ذلك لم يكن منى إلا لهيبته والإجلال له، ولعمرى إن الملوك لأهل أن يهابوا ولا سيما من هو المنزلة التى جل فيها الملك عن منازل الملوك قبله، وقد قالت العلماء : "الزم السكوت فإن فيها السلامة، وتجنب الكلام الفارغ فان عاقبته الندامة". وحكى أن أربعة من العلماء ضمنهم مجلس ملك فقال لهم: ليتكلم كل منكم بكلام يكون أصلا للأدب، فقال احدهم: " أفضل خلة للعلماء السكوت"، وقال الثانى: "إن من أنفع الأشياء للإنسان أن يعرف قدر منزلنه من عقله"، وقال الثالث: "أنفع الأشياء للإنسان ألا يتكلم بما لا يعنيه"، وقال الرابع:
"أروح على الأمور الإنسان التسليم للمقادير".
واجتمع فى بعض الأزمان ملوك الأقاليم من الصين والهند وفارس والروم وقالوا: "ينبغى أن يتكلم كل منا بكلمة تدون عنه على غابر الدهر"، قال ملك الصين: "أنا على ما لم أقل اقدر منى على رد ما قلت"، وقال ملك الهند: "عجبت لمن يتكلم بالكلمة فإن كانت له لم تنفعه وإن كانت عليه أوبقته ملكتها" ، وقال ملك فارس: "أنا إذا تكلمت بالكلمة ملكتنى وإذا لم اتكلم بها ملكتها "، وقال ملك الروم: "ما ندمت على ما لم أتكلم به قط ولقد ندمت على ما تكلمت به كثيرا". والسكوت عند الملوك أحسن من الهذر الذى لا يرجع منه إلى نفع، وأفضل ما استظل به الإنسان لسانه، غير أن الملك أطال الله مدته كما فسح لى فى الكلام و أوسع لى فيه كان أولى ما أبدأ به من الأمور التى هى غرضى أن تكون ثمرة ذلك له دونى وأن أختصه بالفائدة قبلى. على أن العقبى هى ما أقصده فى كلامى له، وإنما نفعه وشرفه راجع إليه وأكون قد قضيت فرضا وجب على فأقول: أيها الملك إنك فى منازل آبائك واجدادك من الجبابرة الذين أسسوا الملك قبلك وشيدوه دونك، وبنوا القلاع والحصون ومهدوا البلاد وقادوا فى الجيوش واستجاشوا العدة وطالت لهم المدة واستكثروا من السلاح والكراع وعاشوا الدهر فى الغبطة والسرور. فلم يمنعهم ذلك من اكتساب جميل الذكر ولا قطعهم من اغتنام الشكر، واستعمال الإحسان إلى من خولوه والرفق فيما ولوه وحسن السيرة فيما تقلدوه، مع عظم ما كانوا فيه من غرة الملك وسكرة الاقتدار، وإنك أيها الملك السعيد جده الطالع كوكب سعده قد ورثت أرضهم وديارهم واموالهم ومنازلهم التى كانت عدتهم فاقمت فيما خولت من الملك وورثت من الأموال والجنود فلم تقم فى ذلك بحق ما يجب عليك، بل طغيت وبغيت وعتوت وعلوت على الرعية وأسأت السيرة وعظمت منك البلية وكان الأولى والأشبه بك أن تسلك سبيل أسلافك وتتبع آثار الملوك قبلك وتقفو محاسن ما أبقوه لك وتقلع عما عاره لازم لك وشينه واقع بك وتحسن النظر برعيتك وتسن لهم سنن الخير الذى يبقى بعدك ذكره ويعقبك الجميل فخره ويكون ذلك أبقى على السلامة، وأدوم على الاستقامة، فإن الجاهل المغتر من استعمل فى اموره البطر والأمنية، والحازم اللبيب من ساس الملك بالمداراة والرفق فانظر أيها الملك ما ألقيت إليك، ولا يثقلن ذلك عليك، فلم أتكلم بذلك ابتغاء عرض تجازينى به ولا التماس معروف تسوقه إلى ولكن أتيتك ناصحا مشفقا عليك". فلما فرغ بيدبا من مقالته وقضى مناصحته أوغر صدر الملك فأغلظ له فى الجواب استصغارا لأمره وقال: "لقد تكلمت بكلام ما كنت أظن أن أحداً من أهل مملكتى يستقبلنى بمثله، ولا يقدم على ما أقدمت عليه، فكيف بك مع صغر شأنك وضعف منتك وعجز قوتك ولقد ازداد عجبى من اقدامك على وتسلطك بلسانك فيما جاوزت فيه حدك وما أجد شيئا فى تأديب غيرك أبلغ من التنكيل بك فذلك عبرة وموعظة لمن عساه أن يبلغ ويروم ما رمت أنت من الملوك إذا أوسعوا لهم فى مجالسهم" ثم أمر به أن يقتل ويصلب، فلما مضوا به فكر فيما أمر فأحجم عنه، ثم أمر بحبسه وتقييده، فلما حبس أنفذ الملك فى طلب تلاميذه ومن كان يجتمع إليه فهربوا فى البلاد واعتصموا بجزائر البحار. فمكث بيدبا فى محبسه أياما لا يسأل الملك عنه ولا يلتفت إليه ولا يجسر أحد أن يذكره عنده حتى إذا كانت ليلة من الليالى سهد الملك سهدا شديدا وطال سهده فمد إلى الفلك بصره وتفكر فى تفلك الفلك وحركات الكواكب فأغرق الفكر فيه فسلك به إلى استنباط شىء عرض له من أمور الفلك والمسألة عنه، فذكر عند ذلك بيدبا وتفكر فيما كلمه فارعوى لذلك وقال فى نفسه: لقد أسأت فيما صنعت بهذا الفيلسوف وضيعت واجب حقه وحملنى على ذلك سرعة الغضب وقد قالت العلماء: "أربعة لا ينبغى أن تكون فى الملوك: الغضب فإنه أجدر الأشياء بصاحبه مقتا، والبخل فإن صاحبه ليس بمعذور مع ذات يده، والكذب فإنه ليس لأحد أن يجاوره، والعنف فى المجاورة فإن السفه ليس من شأنها. وقد أتى إلى رجل نصح لى ولم يكن مبلغا فعاملته بضد ما يستحق وكافأته بخلاف ما يستوجب. وما كان هذا جزاءه منى بل كان الواجب أن أسمع كلامه وأنقاد لما يشير به. ثم أنفذ فى ساعته من يأتيه به. فلما مثل بين يديه قال له: "يا بيدبا الست أنت الذى قصدت إلى تقصير همتى وعجزت رأيى فى سيرتى بما تكلمت به آنفا؟" قال بيدبا: أيها الملك الناصح الشفيق الصادق الرفيق إنما نبأتك بما فيه صلاح لك ولرعيتك ودوام ملكك لك. قال له الملك: "يا بيدبا أعد لى كلامك كله، ولا تدع منه حرفا إلا جئت به"، فجعل بيدبا ينثر كلامه والملك مصغ إليه وجعل دبشليم كلما سمع شيئا ينكت الأرض بشىء كان فى يده، ثم رفع طرفه إلى بيدبا وأمره بالجلوس وقال له: "يا بيدبا إنى استعذبت كلامك وحسن موقعه فى قلبى وأنا ناظر فى الذى أشرت به وعامل بما أمرت. ثم أمر بقيوده فحلت وألقى عليه من لباسه وتلقاه بالقبول فقال بيدبا: "ايها الملك إن فى دون ما كلمتك به نهية لمثلك". قال: "صدقت أيها الحكيم الفاضل وقد وليتك من مجلسى هذا إلى جميع أقاصى مملكتى"، قال له: "أيها الملك اعفنى من هذا الأمر فإنى غير مضطلع بتقويمه إلا بك. فأعفاه من ذلك فلما انصرف علم أن الذى فعله ليس برأى فبعث فرده وقال: "إنى فكرت فى إعفائك مما عرضته عليك فوجدته لا يقوم إلا بك ولا ينهض به غيرك ولا يضطلع به سواك فلا تخالفنى فيه" . فأجابه بيدبا إلى ذلك. وكانت عادة الملوك ذلك الزمان إذا استوزروا وزيرا أن يعقدوا على رأسه تاجا ويركب فى أهل المملكة ويطاف به فى المدينة، فأمر الملك أن يفعل بيدبا ذلك فوضع التاج على رأسه وركب فى المدينة ورجع فجلس بمجلس العدل والإنصاف يأخذ للدنىء من الشريف، ويساوى بين القوى والضعيف، ورد المظالم ووضع سنن العدل وأكثر من العطاء والبذل، واتصل الخبر بتلاميذه فجاؤوا من كل مكان فرحين بما جدد الله من جديد رأى الملك وشكروا الله تعالى على توفيق بيدبا فى إزالة دبشليم مما كان عليه من سوء السيرة، واتخذوا ذلك اليوم عيدا يعيدون فيه ......... فهو إلى اليوم عيد عندهم فى بلاد الهند. ثم إن بيدبا لما أن أخلى فكره من انشغاله بدبشليم تفرغ لوضع كتب السياسة ونشط لها فعمل كتبا كثيرة فيها دقائق الحيل، ومضى الملك على ما رسم له بيدبا من حسن السيرة والعدل فى الرعية فرغبت إليه الملوك الذين كانوا فى نواحيه وانقادت له الأمور على استوائها وفرحت به رعيته وأهل مملكته. ثم إن بيدبا جمع تلاميذه فأحسن صلتهم ووعدهم وعدا جميلا وقال لهم: "لست أشك أنه وقع فى نفوسكم وقت دخولى من الملك أن قلتم: "إن بيدبا قد ضاعت حكمته. وبطلت فكرته إذ عزم على الدخول على هذا الجبار الطاغى" فقد علمتم نتيجة رأيى وصحة فكرى. وأنى لم آته جهلا به لأنى كنت أسمع من الحكماء قبلى أن الملوك لها سكرة كسكرة الشراب فالملوك لا تفيق من السكرة إلا بمواعظ العلماء وآداب الحكماء، والواجب على الملوك أن يتعظوا بمواعظ العلماء والواجب على العلماء تقويم الملوك بالسنتها وتأديبها بحكمتها وإظهار الحجة البينة اللازمة لهم ليرتدعوا عما هم عليه من الأعوجاج والخروج عن العدل، فوجدت ما قالته العلماء فرضا واجبا على الحكماء لملوكهم ليوقظهم من رقدتهم. كالطبيب الذى يجب عليه فى صناعته حفظ الأجساد على صحتها أو ردتها إلى الصحة، فكرهت أن يموت أو أن أموت وما يبقى على الأرض إلا من يقول أنه كان بيدبا الفيلسوف فى زمان دبشليم الطاغى فلم يرده عما كان عليه ، فان قال قائل: "إنه لم يمكنه كلامه خوفا على نفسه"، قالوا: "كان الهرب منه ومن جواره أولى به". والانزعاج عن الوطن شديد، فرأيت أن أجود بحياتى فأكون قد أتيت فيما بينى وبين الحكماء بعدى عذرا، فحملتها على التعزير أو الظفر بما اريده وكان من ذلك ما أنتم معاينوه، فإنه يقال فى بعض الأمثال أنه لم يبلغ أحد مرتبة إلا بإحدى ثلاث: إما بمشقة تناله فى نفسه، وإما بوضيعة فى ماله أو وكس فى دينه، ومن لم يركب الأهوال لم ينل الرغائب. وإن الملك دبشليم قد بسط لسانى فى أن أضع كتابا فيه ضروب الحكمة فليضع كل واحد منكم شيئا فى أى فن شاء وليعرضه على لأنظر مقدار عقله واين بلغ من الحكمة فهمه، قالوا: "أيها الحكيم الفاضل، اللبيب العاقل، والذى وهب لك ما منحك من الحكمة والعقل والأدب والفضيلة ما خطر هذا بقلوبنا ساعة قط أنت رئيسنا وفاضلنا وبك شرفنا وعلى يدك انتعاشنا ولكن سنجهد أنفسنا فيما أمرت". ومكث الملك على ذلك من حسن السيرة زمانا يتولى له ذلك بيدبا ويقوم به. ثم إن الملك دبشليم لما استقر له الملك وسقط عنه النظر فى أمور الأعداء بما قد كفاه ذلك بيدبا صرف همه إلى النظر فى الكتب التى وضعتها فلاسفة الهند لآبائه واجداده فوقع فى نفسه أن يكون له أيضا مشروع ينسب إليه وتذكر فيه أيامه كما ذكر آباؤه واجداده من قبله. فلما عزم على ذلك علم أنه لا يقوم بذلك إلا بيدبا فدعاه وخلا به وقال له: "يا بيدبا إنك حكيم الهند وفيلسوفها وإنى فكرت ونظرت فى خزائن الحكمة التى كانت للملوك قبلى فلم أر فيهم أحدا إلا وضع كتابا تذكر فيه أيامه وسيرته وينبئ عن أدبه وأهل مملكته. فمنه ما وضعته الملوك لأنفسها وذلك لفضل حكمة فيها ومنه ما وضعته حكماؤها وأخاف ان يلحقنى ما لحق أولئك مما لا حيلة لى فيه ولا يوجد فى خزائنى كتاب أذكر به بعدى ينسب إلى كما ذكر من كان قبلى بكتبهم. وقد أحببت أن تضع لى كتابا بليغا تستفرغ فيه عقلك يكون ظاهره سياسة العامة وتأديبها وباطنه أخلاق الملوك وسياستها الرعية على طاعة الملك وخدمته فيسقط بذلك عنى وعنهم كثير مما نحتاج إليه فى معاناة الملك وأريد أن يبقى لى هذا الكتاب بعدى ذكرا على غابر الدهور. فلما سمع بيدبا كلامه خر له سجدا ورفع رأسه وقال: "أيها الملك السعيد جده. علا نجمك وغاب نحسك ودامت أيامك: إن الذى قد طبع عليه الملك من جودة القريحة ووفور العقل حركة إلى عالى الأمور وسمت به نفسه وهمته إلى أشرف المراتب منزلة وابعدها غاية. أدام الله سعادة الملك وأعانه على ما عزم من ذلك وأعاننى على بلوغ مراده . فليأمر الملك بما شاء من ذلك فإنى صائر إلى غرضه مجتهد فيه برأيى". قال له الملك: "يا بيدبا لم تزل موصوفا بحسن الرأى وطاعة الملوك فى أمورهم. وقد اختبرت منك ذلك واخترت أن تضع هذا الكتاب وتعمل فيه نفسك بغاية ما تجد إليه السبيل. وليكن مشتملا على الجد والهزل واللهو والحكمة والفلسفة". فكفر له بيدبا وسجد وقال: "قد أجبت الملك أطال الله أيامه إلى ما أمرنى به وجعلت بينى وبينه أجلا" قال: "وكم الأجل؟ "، قال "سنة"، قال: "قد أجلتك" وأمر له بجائزة سنية تعينه على عمل الكتاب فبقى بيدبا مفكرا فى الأخذ فيه وفى أى صورة يبتدىء بها فيه وفى وضعه. ثم إن بيدبا جمع تلاميذه وقال لهم: "إن الملك قد ندبنى إلى أمر فيه فخرى وفخركم وفخر بلادكم وقد جمعتكم لهذا الأمر"، ثم وصف لهم ما سأل الملك من أمر الكتاب والغرض الذى قصد فيه فلم يقع لهم الفكر فيه فلما لم يجد عندهم ما يريده فكر بفضل حكمته أن ذلك أمر إنما يتم باستفراغ العقل وإعمال الفكر، وقال: "أرى السفينة لا تجرى فى البحر إلا بالملاحين يعدلونها، وإنما تسلك اللجة بمدبرها الذى تفرد بإمرتها ومتى شحنت بالركاب وكثر ملاحوها لم يؤمن عليها من الغرق". ولم يزل يفكر فيما يعمله فى باب الكتاب حتى وضعه على الانفراد بنفسه مع رجل من تلاميذه كان يثق به فخلا به منفردا معه بعد أن أعد شيئا من الورق الذى كانت تكتب فيه الهند، ومن القوت ما يقوم به وبتلميذه تلك المدة وجلسا فى مقصورة وردا عليهما الباب ثم بدءا فى نظم الكتاب وتصنيفه ولم يزل هو يملى وتلميذه يكتب ويرجع هو فيه حتى استقر الكتاب على غاية الإتقان والإحكام. ورتب فيه خمسة عشر بابا كان كل باب منها قائمًا بنفسه وفى كل باب مسألة والجواب عنها، ليكون لمن نظر فيه حظ من التبصرة والهداية وضمن تلك الأبواب كتابا واحدا سماه كتاب كليلة ودمنة ثم جعل كلامه على ألسن البهائم والسباع والطير ليكون ظاهره لهوا للخواص والعوام وباطنه رياضة لعقل الخاصة، وضمنه أيضا ما يحتاج إليه من أمر دينه ودنياه، وآخرته وأولاه، ويحضه على حسن طاعة الملوك ويجنبه ما تكون مجانبته خيرا له. ثم جعله باطنا وظاهرا كرسم سائر الكتب التى ترسم الحكمة فصار الحيوان لهوا وما ينطق به حكما وأدبا، فلما ابتدأ بيدبا ذلك جعل أول كتاب وصف الصديق وكيف يكون الصديقان وكيف تقطع المودة الثابتة بينهما بحيلة ذى النميمة وأمر تلميذه أن يكتب على لسان بيدبا مثل ما كان الملك شرطه فى أن يجعله لهوا وحكمة. فذكر بيدبا ان الحكمة متى دخلها كلام النقلة أفسدها واستجهل حكمتها. فلم يزل هو وتلميذه يعملان الفكر فيما سأله الملك حتى فتق لهما العقل أن يكون كلامهما على لسان بهيمتين، فوقع لهما موضع اللهو والهزل بكلام البهائم وكانت الحكمه ما نطقا به، فأصغت الحكماء إلى حكمه وتركوا البهائم واللهو وعلموا انها السبب في الذى وضع لهم ومالت إليه الجهال عجبا من محاورة بهيمتين ولم يشكوا فى ذلك واتخذوه لهوا وتركوا معنى الكلام أن يفهموه ولم يعلموا الغرض الذى وضع له لأن الفيلسوف إنما كان غرضه فى الباب الأول أن يخبر عن تواصل الإخوان كيف تتأكد المودة بينهما عن التحفظ من أهل السعاية والتحرر ممن يوقع العداوة بين المتحابين ليجر بذلك نفعا إلى نفسه، فلم يزل بيدبا وتلميذه فى المقصورة حتى استتم عمل الكتاب فى مدة سنة. فلما تم الحول أنفذ إليه الملك أن قد جاء الموعد فماذا صنعت؟ فأنفذ إليه بيدبا أنى على ما وعدت الملك فليأمرنى بحمله بعد أن يجمع أهل المملكة لتكون قرائتى هذا الكتاب بحضرتهم فلما رجع الرسول إلى الملك سر بذلك ووعده يوما يجمع فيه أهل المملكة ثم نادى فى أقاصى بلاد الهند ليحضروا قراءة الكتاب، فلما كان ذلك اليوم أمر الملك أن ينصب لبيدبا سرير مثل سريره وكراسى لأبناء الملوك والعلماء وانفذ فاحضره، فلما جاء الرسول قام فلبس الثياب التى كان يلبسها إذا دخل على الملوك وهى المسوح السود ، وحمل الكتاب تلميذه. فلما دخل على الملك وثب الخلائق بأجمعهم، وقام الملك شاكرا فلما قرب من الملك كفر له وسجد ولم يرفع رأسه، فقال له الملك يا بيدبا ارفع رأسك فإن هذا يوم هناءة وسرور وأمره الملك أن يجلس. فحين جلس لقراءة الكتاب سأله الملك عن معنى كل باب من أبواب الكتاب وإلى أى شىء قصد فيه فأخبره بغرضه فيه وفى كل باب فازداد الملك منه تعجبا وسرورا فقال له: "يا بيدبا ما عدوت الذى فى نفسى فهذا الذى كنت أطلب فأطلب ما شئت وتحكم" فدعا له بيدبا بالسعادة وطول الجد وقال: "أيها الملك أما المال فلا حاجة لى فيه وأما الكسوة فلا أختار عن لباسى هذا شيئا ولست أخلى الملك من حاجة" قال الملك: "يا بيدبا ما حاجتك فكل حاجة لك مقضية" قال: "يأمر الملك أن يدون كتابى هذا كما دون آباؤه واجداده كتبهم ويأمر بالمحافظة عليه فإنى أخاف أن يخرج من بلاد الهند فيتناوله أهل فارس إذا علموا به فالملك يأمر أن لا يخرج من بيت الحكمة، ثم دعا الملك بتلاميذه واحسن لهم الجوائز. ثم إنه لما ملك كسرى انو شروان وكان مستأثرا بالكتب والعلم والأدب والنظر فى أخبار الأوائل وقع إليه خبر الكتاب فلم يقر قراره حتى بعث بروزويه الطبيب وتلطف حتى أخرجه من بلاد الهند فاقره فى خزائن فارس.