أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن

من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة


أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن (1138-1184) ثاني حكام الموحدين، حكم من 1163-1184.

لما توفي عبد المؤمن بن علي في (27 جمادى الآخرة 558 هـ= 2 يونيو 1163م) خلفه محمد ابنه الأكبر، وبايعه الناس، فتولى الخلافة شهرًا ونصفًا، ثم عُزل عنها لأمور أُخذت عليه، وأقام شيوخ الموحدين أخاه أبا يعقوب يوسف، وكان في الثلاثين من عمره عندما تولى الأمر، وكان قد قضى سنوات طويلة في الأندلس، واليًا على إشبيلية من قبل أبيه، فتدرب على قيادة الأمور، وتدبير شئون الدولة، وعُرف بثقافته الواسعة ودراسته على كثير من علماء الأندلس، وبحبه للجهاد في سبيل الله.

فهرست

[تحرير] صعوبات واجهت "يوسف"

كانت دولة الموحدين تحكم أقاليم شاسعة لم يسبق دخولها في لواء واحد مثل الأندلس والمغرب الأقصى والمغرب الأوسط وإفريقية، وكانت مهمة مَن يتولى الأمر في مثل هذه الدولة المترامية الأطراف، المتفاوتة في الثقافة ومستوى الحياة -أن يحافظ عليها كتلة واحدة دون أن ينفصل منها جزء، أو ينتزع منها عدوٌ شيئا، فما بالك والثورات لا تهدأ في إفريقية، والنصارى القشتاليون لا يفتئون يهددون المسلمين في الأندلس؛ ولذا كانت مهمة أبي يعقوب يوسف في غاية الصعوبة؛ حتى تسلس له قيادة الدولة، ويعم الهدوء والأمن ربوع البلاد.

وما إن استقر أبو يعقوب في عاصمته حتى هبّت في وجهة ثورة عارمة في جبال "غمارة" يقودها واحد من زعماء صنهاجة التي تابعته في الثورة، فأرسل إليها قائده أبا حفص، لكنه لم ينجح في إخمادها، فاضطر الخليفة إلى الخروج بنفسه لقتالهم، فهزمهم، وقمع الفتنة في مهدها.

ولم يكد يمضي عامان على حكمه حتى قامت فتنة كبيرة في الأندلس، أشعل جذوتها "محمد بن سعد بن مردانيش" في شرقي الأندلس يريد الاستقلال بما تحت يديه، واستعان بالنصارى القشتاليين والأرغونيين، وأغار على قرطبة، فسير له أبو يعقوب جيوشًا ضخمة يقودها أخواه: أبو سعيد، وأبو حفص، وتمكنا من إلحاق الهزيمة بابن مردانيش الذي فرّ هاربًا، وعاد القائدان إلى مراكش سنة (561 هـ= 1166م).

[تحرير] حملة شنترين

قصر إشبيلية

بلغ الخليفةَ أبا يعقوب أن الملكين: فرديناند ملك ليون، وألفونسو أنريكي ملك البرتغال المسيحيين، يوسّعان حدودهما على حساب أملاك المسلمين في الأندلس، فعزم الخليفة الموحدي على استتباب الأمن في الأندلس، والقضاء تمامًا على خطر ابن مردانيش الذي يلقى دعمًا من النصارى هناك.

خرج الخليفة الموحدي إلى الأندلس سنة (566هـ= 1171 م) ومعه جيوشه الجرارة، ونزل بإشبيلية عاصمة دولته في الأندلس، وأرسل جيوشه للقضاء على ابن مردانيش الذي كان يتحصن في "مرسية" فحاصرته جموع الموحدين، وتوفي وهو محاصَر في (رجب 567 هـ= مارس 1173)، وقام ابنه بالدخول في طاعة الموحدين، وسلّم لهم الحصون التي كانت تابعة لأبيه، مثل حصون بلنسية ومرسية وشاطبة ودانية ولورقة.

وظل أبو يعقوب في إشبيلية بالأندلس أربع سنوات، نظم خلالها عدة حملات ضد البرتغاليين والقشتاليين، ثم عاد إلى "مراكش" في سنة (571 هـ= 1177م)، غير أن الأحوال لم تلبث أن ساءت في الأندلس من جديد، وعاد الملكان المسيحيان إلى سيرتهما الأولى في التهام بلاد الأندلس.

وكان الملك البرتغالي قد اشتد خطره بعد أن تحالف مع ألفونسو الثامن الذي تولى عرش ليون وقشتالة خلفًا لفرناندو الثاني، ولم يكن أمام الخليفة الموحدي سوى العبور بجيش عظيم لإيقاف الخطر البرتغالي الداهم، والحفاظ على ما بقي من دولة الإسلام في الأندلس التي لم تزل تتناقص رقعتها سنة بعد أخرى أمام هجمات النصارى هناك.

سار الجيش الموحدي نحو "شنترين" كبرى قواعد غربي الأندلس، وكانت قد سقطت في أيدي البرتغاليين سنة (541 هـ= 1146م) وحاصرها حصارًا شديد، وكان ألفونسو أنريكي قد ترامت إليه أنباء هذه الحملة فزاد في تحصين شنترين، وشحنها بالمؤن وآلات الحرب، واستعد للحصار.

لم تفلح هجمات الموحدين في اقتحام المدينة الحصينة، ولم يترك أبو يعقوب وسيلة يضيق بها على المدينة إلا اتبعها من قطع المؤن والعتاد عن الوصول إليها، فما زاد ذلك أهلها إلا صمودًا واستبسالا في الدفاع، وجلدًا في تحمل مشاق الحصار.

وفي أثناء الحصار أصدر الخليفة أمرًا برفع الحصار عن المدينة المنهكَة في (1 ربيع الأول= 2 يوليو 1184م)، ويختلف المؤرخون في السبب الذي جعل الخليفة يصدر قراره المفاجئ، فيذهب بعضهم إلى خشية الموحدين من هجوم البرد؛ إذ كان الوقت آخر فصل الخريف، وخافوا أن يفيض النهر فلا يستطيعون عبوره، وتنقطع عنهم الإمدادات، فأشاروا على الخليفة الموحدي بفك الحصار والرجوع إلى إشبيلية.

وذهب بعضهم إلى أن الخليفة أمر بانتقال الجيش إلى موضع آخر، وكلف ابنه بالاستعداد للرحيل من تلك الليلة لغزو مدينة أشبونة، ففهم خطأ، وظن أنه أمره بالرحيل في جوف الليل إلى إشبيلية.

وتذهب رواية أخرى أن الخليفة الموحدي علم بسير ملك ليون وقشتالة بجنوده لنجدة المدينة المحاصرة، فخشي الخليفة أن يعمل القشتاليون على إعاقة عبوره النهر إلى الضفة اليسرى، فعجّل بالرحيل.

وأيًا ما كان السبب الذي حمل الخليفة على اتخاذ قراره المفاجئ، فإن عملية ارتداد الجيش الضخم كانت تتسم بالفوضى وتتم على عجل، ولم يكن هناك ما يدعو إلى الارتباك.

[تحرير] استشهاد الخليفة

فُهم قرار الخليفة خطأ، وسارع قادته بتنفيذ قراره على وجه السرعة، فعبر معظم الجيش في جوف الليل إلى الضفة الأخرى، فلما أسفر الصباح فوجئ الخليفة بالحقيقة المروعة ولم يبق حول الخليفة سوى قوات قليلة، فانحدر الخليفة نحو النهر، وبقي ابنه في نفر من جنوده لحماية انسحاب الجيش، لكن نصارى شنترين أدركوا ما حدث في معسكر المسلمين، فبادروا بالخروج من المدينة، وهجموا على القوات المنسحبة، فسقط عدد كبير، وأصيب الخليفة بسهم مسموم، وتدارك الناس حين سمعوا صرخات الخليفة، فاقبلوا مسرعين، وتراجع البرتغاليون إلى شنترين، بينما حمل الجنود خليفتهم جريحًا في محفّة، ثم لم يلبث أن لقي ربه شهيدا في (ربيع الآخر 580 هـ = يوليو 1184م).

[تحرير] أبو يعقوب في التاريخ

كان الخليفة أبو يعقوب يوسف من أعظم خلفاء دولة الموحدين، وإذا كان لم يحقق نتائج عظيمة في ميادين الحرب مثلما حقق أبوه الخليفة عبد المؤمن بن علي، أو ابنه الخليفة يعقوب المنصور، فإنه حقق شيئًا عظيمًا في النواحي الإدارية والعمرانية.

اتسم الخليفة أبو يعقوب بالحزم، وتحري العدل، وقمع الظلم والبغي، يدفعه إلى ذلك تقواه وورعه وتبحره في علوم الشريعة، وله في ذلك رسالة بديعة كتبها إلى أخيه والي قرطبة وإلى سائر الولاة بالأندلس بشأن تحري الدقة والأمانة في عقد الأحكام وتوقيع العقوبات، وبلغ من حرصه في ذلك أنه أمر بألا يُقضى بحكم الإعدام على شخص إلا بعد أن تُرفع النازلة (القضية) إليه، مشفوعة بالأسباب التي دفعت القاضي إلى الحكم، وأقوال الشهود ونحوها.

وكان الخليفة شغوفًا بالعلم يجلّ أهله ويقربهم إلى مجلسه، وكان هو عالمًا بارعًا في الفقه، يحفظ صحيح البخاري، ملمًا بعلوم العربية، وكان في مدة إقامته بالأندلس يزين مجلسه بقادة الفكر وزعماء الرأي من أمثال أبي بكر بن طفيل، وابن رشد الفيلسوف، وأبي بكر بن عبد الملك بن زهر الطبيب العبقري، واستأثر ابن طفيل بحب الخليفة وعنايته، فكان لا يفارق مجلسه، ولا يصبر على بعده، وكان رسوله إلى العلماء يدعوهم لحضور مجلسه.

وللخليفة مشاركة علمية بسيطة تكشف عن براعته في علم الحديث والعلوم الشرعية، فله كتاب "الجهاد" يحمل اسمه، وقد أُلحق هذا الكتاب بكتاب "أعزّ ما يُطلب" للمهدي ابن تومرت.

وكان الخليفة محبًا للعمران، كلفًا بإقامة العمائر، فشيد طائفة منها، رفعت اسمه بين ملوك المغرب قاطبة، وحسبك ما قام به في أثناء إقامته بإشبيلية حاضرة الأندلس من المنشآت العظيمة، مثل: مسجد إشبيلية الجامع، وصومعته العظيمة التي أتمّها ولده يعقوب المنصور، ومشروع إمداد إشبيلية بالماء وتجديد أسوارها التي خربتها السيل، وإنشاء القصور والبساتين في إشبيلية .

وبعد وفاة الخليفة أبي يعقوب يوسف خلفه ابنه يعقوب، وتلقب بالمنصور، وقد ذكرنا طرفًا من حياته في يوم (15 صفر).

[تحرير] من مصادر الدراسة

ابن عذارى المراكشي: البيان المغرب (القسم الثالث) ـ المغرب ـ 1960.

محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس ـ عصر المرابطين والموحدين ـ مكتبة الخانجي ـ القاهرة ـ 1384 هـ= 1964 م.

السيد عبد العزيز سالم: المغرب الكبير (العصر الإسلامي) ـ الدار القومية للطباعة والنشر ـ القاهرة ـ 1966.

حسين مؤنس: تاريخ المغرب وحضارته ـ العصر الحديث للنشر والتوزيع ـ بيروت ـ1412 هـ= 1992م

هشام أبو رميلة: علاقات الموحدين بالملك النصرانية والدول الإسلامية في الأندلس ـ دار الفرقان ـ عمان ـ 1404 هـ= 1984م)