الفيزياء في العصر العباسي

من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة

يرجع لعلماء المسلمين الفضل الأكبر فى حفظ ذلك التراث اليوناني بترجمته ونقله، ثم فى شرح هذا التراث، وإيضاحه، وتهذيبه، والتعريف به، وأخيرًا فيما أضافوه إليه من زيادات هامة وابتكارات أصيلة توصلوا إليها بالبحث والتجربة وفق منهج علمى سليم. ولايتسع المجال هنا أن نقدم دراسة وافية عن مجمل المنجزات التى حققها علماء العرب والمسلمين فى العلوم الفيزيائية، وسوف نتعرض بإيجاز لأهم هذه المنجزات فى علوم الميكانيكا والبصريات وبعض الظواهر المتعلقة بخواص المادة وفيزياء الجوامد.

نص 1

  1. عنصر 2
  2. عنصر 3 ==أولاً- الميكانيكا==

ويعرف علم الميكانيكا بأنه: "أحد فروع الفيزياء الذى يعنى بدراسة حركة الأجسام أو تغيير مواضعها". وبالبحث والتنقيب فى مخطوطات التراث العلمى للحضارة الإسلامية، تأكد سبق العلماء المسلمين إلى تحديد الكثير من المفاهيم العلمية السليمة لقوانين الحركة الثلاثة التى صاغها "إسحق نيوتن" ونشرها فى كتابه الشهير"الأصول الرياضية للفلسفة الطبيعية". كما استعمل علماؤنا المصطلحات والمفاهيم الميكانيكية المختلفة كما نعرفها اليوم، ففى كتاب "الشفاء" يحدد ابن سينا عناصر الحركة فى المتحرك -الجسم المتحرك-، والمحرك -القوة المسببه للحركة-، والزمان -الفترة الزمنية التى استغرقتها الحركة-. كما قدم تعريفًا للحركة الطبيعية والحركة القسرية.

كما عرف ابن الهيثم مصطلح "قوة الحركة" الذى يقابل المعنى الديناميكى الحديث لمصطلح "كمية التحرك" الذى يعرف بحاصل ضرب الكتلة فى السرعة، وفطن ابن الهيثم إلى قرب معنى "كمية التحرك" من معنى "طاقة الحركة" فى الاصطلاح الحديث، فنص صراحة على أن قوة الحركة فى المتحرك هى بحسب قوة قذفه. ويحقق ابن الهيثم سبقًا عظيمًا لاكتشافه أن للضوء سرعة عندما ذكر ذلك فى كتابه "المناظر"، وأثبت ابن الهيثم أنه على دراية بفكرة تحليل الحركة إلى مركبتين، وأيضًا على دراية باستخدام النماذج الرياضية التى قلنا عنها إنها تفيد فى تبسيط الوصف الرياضى للظواهر الفيزيائية، فتعرض عند شرحه لكيفية انعكاس الضوء إلى التمثيل بحركة كرة صغيرة ملساء من الحديد أو النحاس تسقط على سطح مستو فترتد منه. وينسب إليه فضل تحليل سرعة الجسم إلى مركبتين متعامدتين، وإلى وضع أسس حركة التصادم، وإلى القول بأن مدافعة سطح الملاقاة الساكن للجسم المتحرك تكون فى اتجاه عمودى على هذا السطح، وأن هذه المدافعة تتوقف على مدى ممانعة سطح التصادم عن الانفعال. وتكلم ابن سينا عن مقاومة الوسط الذى يتحرك فيه الجسم فى طبيعيات كتابه "الشفاء"، كما كان له فى كتابه "الإشارات والتنبيهات" نصوص صريحة واضحة لبعض قوانين الحركة لقوانين الحركة الثلاثة المنسوبة لإسحق نيوتن، كما أشار أبو بكر الرازي إلى هذه القوانين، وهذا يدل على سبق المسلمين. وكذلك سبق المسلمين إلى اكتشاف فكرة قانون الجاذبية العام الذى اشتهر نيوتن بسببه، ومن أوائل المسلمين الذين فهموا تأثير الجاذبية فهمًا علميًا صحيحًا نذكر منهم: البيرونى، والخازن، والهمدانى، والإمام الرازي، وغيرهم. وأول رائد فى هذا المجال الهمداني الذى تحدث فى "كتاب الجوهرتين العتيقتين من الصفراء والبيضاء" عن الأرض وما يرتبط بها من أركان ومياه وهواء، فقال فى سياق الحديث: "فمن كان تحتها -أى تحت الارض- فهو فى الثبات فى قامته كمن فوقها، ومسقطه وقدمه إلى سطحها الأسفل كمسقطه إلى سطحها الأعلى، وكثبات قدمه عليه. فهى بمنزلة حجر المغناطيس الذى تجذب قواه الحديد إلى كل جانب، فأما ما كان فوقه فإن قوته وقوة الأرض تجتمعان على جذبه وما دار به فالأرض أغلب عليه إذا كان الحديد مثلاً يمس أجزاء الحجر والأرض أغلب عليه بالجذب لأن القهر من هذه الحجارة لا يرفع العلاة ولاسفلة الحداد".

ومن أشهر النصوص التى تعرضت لهذا الموضع وأوضحها ما قاله البيروني فى رده على المعترضين على دوران الأرض حول نفسها والمعتقدين بأن الأرض لو دارت لطارت من فوق سطحها الأحجار واقتلعت الأشجار، وأكد أن الأرض تجذب ما فوقها نحو مركزها، فقد جاء فى كتابه "القانون المسعودي" أن: "الناس على الأرض منتصبو القامات على استقامة أقطار الكرة، وعليها أيضًا نزول الأثقال على أسفل". وقد كان لدى المسلمين عدد غير قليل من آلات الروافع، ومن هذه الآلات: المحيط والمخل، والبيرم، والأسفين، واللولب وغير ذلك. ويقول إخوان الصفا: "ومن عجائب خاصية النسبة ما يظهر فى الأبعاد أن أحد رأسى عمود القرسطون، أعنى القبان، وذلك أن أحد رأسى عمود القرسطون طويل بعيد من المعلاق، والآخر قصير قريب تساويًا وتوازيًا، كانت نسبة الثقل القليل إلى كثير كنسبة بعد رأس القصير إلى بعد رأس الطويل من المعلاق". وهكذا نجد أن: ابن سينا، والبيروني، والهمداني، والرازي، والحسن بن الهيثم، وعبد الرحمن الخازن، وغيرهم قد وضعوا أصول علم الميكانيكا الكلاسيكية قبل نيوتن بعدة قرون وأثبتوا أنهم الرواد الأوائل فى هذا المجال.

فهرست

[تحرير] ثانيًا- البصريات

ويعد الكندي من أوائل العلماء المسلمين الذين طرقوا ميدان علم الطبيعة، وله كتاب اختص به دراسة نظريات "علم المناظر"، وقد عالج فى هذا الكتاب الظواهر الضوئية، وكان لهذا الكتاب صدى فى المحافل العلمية العربية، ثم الأوربية فى العصور الوسطى. ثم جاء من بعده الحسن بن الهيثم الذى ينسب إليه علم البصريات بأكمله، وكانت أعماله هى الأساس الذى بنى عليه علماء الغرب جميع نظرياتهم فى هذا الميدان.

لقد ناقش ابن الهيثم "نظريات إقليدس وبطليموس" فى مجال الإبصار، وأظهر فساد بعض جوانبها، وفى أثناء ذلك قدم وصفًا دقيقًا للعين وللعدسات وللإبصار بواسطة العينين، ووصف أطوار انكسار الأشعة الضوئية. وهو أول من نوه باستخدام (الحجرة السوداء) التى تعتبر أساس التصوير الفوتوغرافى، ويقول العالم الرياضى الفرنسى "شارل أبرنون "(1880م): "إن بحوث ابن الهيثم فى ميدان المناظر تعد أصل معارفنا فى علم الضوء".

وقد جمع ابن الهيثم معظم أبحاثه وصنفها فى كتابه المشهور "المناظر" الذى نهل منه علماء الغرب، ولا يزال المنصفون يشيرون إليه بالبنان كلما تحدثوا عن علم البصريات أو صنفوا فيه الكتب والمراجع، ودعا الاهتمام العالمى بهذا الكتاب إلى وضع ترجمة لاتينية كاملة له عام (1572م). والكتاب يعرض بالتفصيل لكل الموضوعات التى يعنى بها اليوم علم "البصريات الهندسية". ومن العلماء المسلمين الذين برزوا فى عالم الطبيعيات، وبخاصة فى نواحى البصريات والصوت والضوء والحرارة: أبو إسحاق إبراهيم بن سنان، وفى ذلك يقول ابن الهيثم "ولى كتاب فى آلة الظل اختصرته، ولخصته عن كتاب إبراهيم بن سنان فى ذلك". وكذلك إخوان الصفا تطرقوا إلى علم الصوت وتكلموا فيه.

[تحرير] ثالثًا- خواص المادة

اهتم علماء المسلمين بدراسة خواص المادة الصلبة والسائلة وطرق تعيينها، وهناك بعض الخواص التى تعرضوا لها فى كتبهم فحققوا فى الكشف عنها سبقًا يذكره لهم التاريخ، ومن بين هذه الخواص تبرز بوضوح خاصيتان هامتان هما:

[تحرير] 1- خاصية اللزوجة

وقد أشار إليها عدد من العلماء فى معرض حديثهم عن طريق مقاومة الحركة أو عند محاولة تبسيط بعض الظواهر الطبيعية؛ ليسهل فهمها واستيعابها، من ذلك ما قاله ابن سينا عن سقوط الأجسام الحر فى أوساط مادية مختلفة من أن مقاومة المنفوذ فيه هو المبطل للقوة المحركة. وهناك من استخدم صراحة مفهوم اللزوجة فى السوائل والغازات ليس فقط بمعنى أن الوسط يقاوم حركة الجسم، ولكن أيضًا بمعنى أن الوسط إما غليظ القوام أو خفيف القوام، فيقول الرازي: "إن الجسم إذا تحرك فى مسافة فكلما كان الجسم الذى فى المسافة أرق كانت الحركة فيه أسرع، وكلما كان أغلظ -أى فى القوام- كانت الحركة فيه أبطأ. ويقول ابن الهيثم: "كما أن الحجر إذا تحرك فى الهواء كانت حركتة أسرع وأسهل من حركته إذا تحرك فى الماء لأن الماء يدافعه مدافعة أكثر من مدافعة الهواء".


[تحرير] 2- الوزن النوعى

تدل أبحاث المسلمين فى هذا المجال على طول باعهم وأنهم طرقوه فى وقت مبكر، وكانوا من الدقة فى تقدير بعض الأجسام تقديرًا يطابق ما عليه الدراسات المعاصرة أو يقترب منها كثيرًا، واهتدوا فى أثناء ذلك إلى النسب الحقيقية بين وزن الأجسام المعدنية المختلفة، وبين وزن الماء، ودعاهم ذلك إلى وضع جداول دقيقة لبعض المعادن والأحجار الكريمة. ومن العلماء الذين برزوا فى ذلك: أبو سهل الكوهي، فقد شارك فى إجراء بعض التجارب على مراكز الأثقال، ولم يرتض بعض المسائل الفرضية المأثورة عن اليونان، ويذكر ذلك بصراحة فى رسالة بعث بها لأبي إسحاق الصابي.

ثم جاء ابن الهيثم فى كتابه "ميزان الحكمة"، بمقالته "مراكزالأثقال" حيث بحث فى علاقة وزن الهواء الجوى بكثافة الهواء نفسه، وشرح نظرية تغير الجسم بتغير كثافة الهواء، وبحث فى الأجسام الطافية فى السوائل، ونسبة ما ينغمس منها. ثم جاء البيرونى، حيث مهر فى عالم الأوزان النوعية التى لا تقل دقة عن الأوزان الحديثة. يقول: "جاك ريسلر": "لقد قاس البيروني الأوزان النوعية، وذلك باستخدام مقياس كثافة من اختراعه الخاص أسماه "الميزان الطبيعى" ووضع على هذا المنوال المبدأ الذى يثبت أن الوزن النوعى لشىء ما يتناسب مع حجم الماء الذى يزيحه، وهو الذى أثبت أيضًا فى ميدان أكثر اتساعًا للعمل حركة مياه الآبار الارتوازية عن طريق مبدأ "الأوانى المستطرقة"، وقد وضع البيروني الوزن النوعى لثمانية عشر عنصرًا من والأحجارالكريمة، والمعادن نذكر منها: الذهب، والزئبق، والنحاس، والحديد، والرصاص، والزمرد، واللؤلؤ. هذا وقد ضمن أبو الريحان خلاصة أبحاثه فى الثقل النوعى كتابه "مقالة فى النسب التى بين الفلزات والجواهر فى الحجم"، واستعمل فى تجاربه العلمية لاستخراج الثقل النوعى آلته المخروطية التى صنعها بنفسه. ومع ذلك فقد وصل أبو الريحان إلى نتائج تكاد تكون هى ما وصل إليه المحدثون. وفى ذلك يقول العلامة "بلتون": "إن العرب كانوا يعرفون ثقل الهواء، ولهم رسائل متقنة، وموازين دقيقة لاستخراج الوزن النوعى لأكثر السوائل والجوامد التى تذوب فى الماء، ولهم فى ذلك جداول على النحو المستعمل الآن". ونكتفى بهذا القدر البسيط عن العلوم الفيزيائية فى تراث الحضارة الإسلامية، التى تحولت إلى دراسة علمية تستند إلى منهج تجريبى استقرائى، وما كان يتأتى إدراك هذا المنهج إلا بعد التأمل وفرض الفروض، وإجراء التجارب واستخلاص النتائج، وتلك هى الطريقة التى توصل بها المسلمون إلى حقائق الأشياء وأخذتها عنهم أوروبا فنهضت من تخلفها وحققت إنجازات حضارية هائلة.